سر الحياة في قطرة من الدم

سر الحياة في قطرة من الدم

كان (عمرو) خائفاً وهو يجلس عند طبيب التحاليل ويراقب الإبرة الرفيعة التي يمسكها, ويبدو أن الطبيب قد أحسّ بذلك فقال له:

- لا تخش شيئا يا عمرو, إنها وخزة بسيطة, تستغرق أقل من لحظة من الزمن, ولكنها سوف تكون كثيرة الفائدة لنا.
وبالفعل, ما إن أوشك عمرو على الصراخ حتى كان كل شيء قد انتهى, أمسك الطبيب بإصبعه الصغيرة, ووخزه بسرعة, وأخذ قطرة الدم التي برزت على شريحة صغيرة من الزجاج, وقال عمرو مستغربا:

- ما أهمية هذه النقطة الصغيرة من الدم?

قال الطبيب مبتسما:

- نقطة صغيرة ولكنها تحمل سر الحياة, فالدم يدور في كل جزء من جسمنا بواسطة الأوردة والشرايين, ويقوم القلب بضخه إلى كل خلية في الجسم, فيحمل إليها الغذاء والأوكسجين, والدم يجدد أجسامنا من الداخل, وهو رمز الرباط الذي يربط العائلة بعضها بعضا, لأن الأولاد جميعا يحملون النوع نفسه من فصيلة دم الأب, كما يربط بين العديد من الأقوام والأعراق, وهو أحيانا يقود إلى النزاعات والصراعات, وقديما كانوا يوقعون به على العقود لضمان الالتزام بها, ونحن نقول في الأمثال دائما إن الدم لا يصبح ماء أبدا, معبّرين بذلك عن أن رابطة الدم رابطة لا تنقطع أبدا, ويقول الغربيون إن الدم أثخن من الماء وهم يقصدون المعنى نفسه.

الدم... دورة مغلقة

قال عمرو مدهوشا وقد أعجبته هذه المعلومات الجديدة: لم أكن أعرف أن الدم له هذه الأهمية, هل كان القدماء يعرفون ذلك?

قال الطبيب: لقد كان الإغريق القدامى يعتقدون أن هناك أربعة سوائل مهمة للحياة هي الدم والبلغم والصفراء التي يفرزها الكبد والسوداء وهي مادة كانوا يعتقدون أنها تتحكم في مزاج الشخص العصبي, ولكن أول من درس الدم هو الطبيب اليوناني جلين الذي أصبح شهيرا في روما في القرن الثاني من الميلاد, وقام بتشريح كثير من الحيوانات مثل الأغنام والقرود والماعز فقد كان محرما في ذلك الوقت الاقتراب من الجسم البشري لذلك أخذ ذلك الطبيب معلوماته من فحصه لدماء الحيوانات, وقال إن حركة الدم في الجسم مثل حركة مياه النهر تفيض وتغيض, وكان يعتقد أن الصحة تنتج من التوازن بين هذه السوائل الأربعة, وقد استمرت هذه النظرية على مدى 1400 عام, كما أن الناس كانوا يعتقدون أيضا أن الدم يحمل الكثير من خصائص الشخصية, فعلى سبيل المثال, كانوا يعتقدون أن دم الفأر يحمل صفات الجبن, ودم الثعلب يحوي المكر, ودم الأسد يحوي الشجاعة, وهكذا فإننا إذا نقلنا دم الحيوان إلى الإنسان فسوف تنتقل معه كل هذه الصفات.

وكان عالمنا العربي علي بن النفيس هو أول من اكتشف أن الدم يدور في دورة محكمة, وقد توصل إلى اكتشاف الدورة الصغرى التي تدور بين القلب والرئتين, وقال: إن الدم ينقى في الرئتين, وتأكد هذا الرأي في القرن السابع عشر عندما بدأت الأبحاث الطبية في التقدم واكتشف الطبيب المشهور وليم هارفي أن الدم لا يفيض ويغيض مثل حركة النهر كما كان جلين يعتقد, ولكنه يسير في دورة مغلقة تبدأ من القلب عبر الأوردة التي تتشابك في أطرافها مع الشرايين وتنقل إليها الدم ليعود إلى القلب مرة أخرى. ثم عرفنا بعد ذلك تركيب الدم, وأنه يتكون من خلايا تسمى الكريات الدموية الحمراء, والكريات الدموية البيضاء, تسبح في سائل هو البلازما, الذي يشكل الحجم الأكبر من الدم, ويوجد في الخلايا الحمراء مادة الهيموجلوبين التي تحمل الأوكسجين إلى كل أنحاء الجسم, وفي عام 1901 اكتشف طبيب أسترالي هو كارل لاندشتاينر أن الدماء البشرية ليست كلها متشابهة, ولكنها مقسمة إلى ثلاث مجموعات من الفصائل هي, فصيلة أ, فصيلة ب, فصيلة و, وقد عرف العلماء بذلك وللمرة الأولى لماذا تفشل عمليات نقل الدم بالنسبة لبعض الأفراد وتنجح بالنسبة للبعض الآخر.

كل الأسرار في نقطة صغيرة

قال عمرو: ولكن ماذا تعرف من هذه النقطة من الدم, ولماذا يصرّ كل طبيب على إجراء فحص للدم مهما كانت طبيعة المرض?

قال الطبيب ضاحكا: أنت كثير الأسئلة يا عمرو, ولكنها كلها مهمة, إن الدم يبين حال صحة الجسم بشكل عام لأنه مرتبط بكل العمليات التي تحدث داخل الجسم, وأول شيء نعرفه من هذا الاختبار البسيط هو نوع فصيلة الدم وهو أمر مهم جدا عند القيام بأي عملية نقل دم لأنه يجب عدم نقل الدم إلا بين الأنواع المتشابهة, ولعلك لا تعرف أن قائدي سيارات السباق يكتبون نوع فصيلة دمهم دائما فوق خوذة السباق حتى يمكن إسعافهم بسرعة عندما يقع لهم أي حادث, كما أنه يكتب لهذا السبب في بطاقات هويات المواطنين, ويمكن أن نعرف أصل هذا الشخص, لأن هناك أنواعا من فصائل الدم تتركز في مناطق معينة من العالم, وتمكّننا هذه القطرة من قياس مستوى السكر في الدم حتى نعرف إن كان المريض مصابا بداء السكري أم لا, ويمكننا أيضا أن نحصي عدد الخلايا المكونة للدم, وعن طريق عدد هذه الكريات نستطيع أن نعرف العديد من الأمراض التي يعاني منها الشخص, فإذا كانت الكريات الحمراء ناقصة, فمعنى هذا أنه يعاني فقر الدم أو الأنيميا, أما إذا كانت كريات الدم البيضاء زائدة, فمعنى هذا أنه يعاني بعض الأمراض التي تسبب الالتهابات, وتساعدنا هذه النقطة على كشف وجود مرض (الايدز) وهو واحد من أخطر الأمراض, ويكشف الدم أيضا عن أمراض السرطان, وحال العظام, ومدى صحة الأعضاء الداخلية للجسم, وكمية المعادن الموجودة داخل الجسم, وصحة الكليتين والمخاطر التي يمكن أن تؤثر في القلب, وحال الكولوسترول والكبد والهرمونات, كما أنه يحتوي أيضا على الشفرات السرية للحياة, لذلك يصرّ الأطباء على أخذ هذه النقطة الثمينة لأنها تكشف عن كل شيء.

بنوك ليست للنقود

- ولكن ما المقصود ببنوك الدم هذه, كنت أعتقد أن البنوك لا تحتفظ إلا بالنقود فقط?

- لقد اكتشفت البشرية بالفعل أن الدم أكثر قيمة من النقود, ففي إمكان كمية قليلة منه أن تنقذ حياة إنسان, بينما تعجز النقود عن ذلك, ومنذ أن اكتشفت فوائد نقل الدم من إنسان إلى آخر بدأت الأبحاث لتوفير هذه الخدمة, ففي عام 1915 اكتشف أنه يمكن تخزين الدم لمدة طويلة, وفي حال جيدة إذا وضعنا عليه بعض المواد التي تمنعه من التجلط ووفرنا له درجة التبريد اللازمة, وبعد ذلك بحوالي عشرة أعوام أنشئ في إنجلترا أول بنك لحفظ الدم, وانتشرت بعد ذلك إلى أمريكا وبقية دول العالم, وكانت مهمة البنك أن يقبل الدماء من المتطوعين ويحافظ عليها في حال جيدة إلى حين يحتاج إليه أي مريض في غرفة العمليات مادام دمه من الفصيلة نفسها, وتمكن الأطباء من استخدام البلازما التي كانت تحفظ لمدة أطول من الدم الكامل, ولكن هذا الأمر أثار العديد من المشاكل, ففي ألمانيا كان الحزب النازي يصر على أن الشعب الألماني الذي ينتمي إلى الجذور الآرية يجب أن يبقى نقي الدم, ويجب ألا تختلط به دماء أخرى من أي نوع, لذلك منع استخدام أي دماء غير ألمانية رغم أن الحرب العالمية الثانية كانت توقع الكثير من الجرحى, وكذلك أمريكا في أول الأمر عندما كانت تسود فيها قوانين التفرقة العنصرية, كانت تفرق بين دم البيض ودم السود رغم أنه لا يوجد أي فرق بينهما في التركيب الفسيولوجي, وللأسف لم تنجح تجارب الدم الصناعي حتى الآن, رغم أن نقل الدم دون حذر كاف يمكن أن يتسبب في نقل العديد من الأمراض أشهرها مرض الإيدز لذلك يجرى على الدم العديد من الاختبارات قبل حفظه, أو قبل نقله من مريض إلى آخر.

- ولكن كيف يفقد الإنسان كمية كبيرة من الدم ويبقى رغم ذلك على قيد الحياة?

كما قلت لك فإن الدم يتكون من ثلاثة أجزاء, هي الكريات الدموية الحمراء والبيضاء والبلازما, ويمكن للإنسان أن يفقد 70% من الكريات الحمراء ويبقى على قيد الحيـــاة, ولكنــه لا يستطيـــع أن يفقد إلا 30% فقط من البلازما, لأنها هي التي تحمل كريات الدم وتملأ الشرايين والأوردة وتمنع هبوط الضغط فيها, كما أن الدم المفقود يمكن أن يتجـــدد في نخاع العمود الفقري للإنسان إذا أخذ الكميات المناسبة من البروتين والحديد, إن الدم هو - كما قلت - أهم مادة في الحياة, بل إنه الحياة ذاتها.

كيف يعمل القلب?

يعمل القلب مثل المضخة التي تدفع بالدم إلى كل أنحاء الجسم, في سن السبعين يكون القلب قد ضخ ما يقرب من 150 مليون لتر من الدم, وقام بحوالي 2800 مليون ضربة, وكل ضربة تضخ حوالي نصف كوب من الدم في عشر ثوان وهذا هو ما يحدث خلال هذه الثواني:

1- يدفع القلب الدم إلى الرئة حتى يتزود بالأوكسجين, وهو يخرج من أحد جوانب القلب.

2- الدم المزود بالأوكسجين يأتي من الرئة ويدخل الجانب الآخر من القلب.

3- يقفل صمام الدخول ويندفع الدم إلى الغرف الداخلية للقلب.

4- ينقبض القلب وتفتح صمامات الخروج ويدفع بالدم القديم إلى الرئة, وبالدم الجديد إلى بقية أجزاء الجسم.

 


 

محمد سيف





سر الحياة في قطرة من الدم





وليم هارفي الذي اكتشف أن الدم يدور في دائرة مغلقة داخل الجسم





كيف يعمل القلب





مكونات الدم