قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

ابن خلدون
الطفل غريب الهوايات

كان الأطفال يسألونه:

- يا عبدالرحمن, لماذا تجمع كل هذه الأشياء?

فيرد: أحاول أن أعرف.

ويكون الجواب: كم أنت غريب, مثل هوايتك!!

ترى هل كان عبدالرحمن بن خلدون, المولود في مدينة تونس عام 1322 غريبا فعلا منذ طفولته?

لا, لم يكن غريبا, بل ممتلئا بالتساؤلات, وكان كل همّه هو إيجاد الأجوبة, فقد اكتشف أن لكل شيء جذوره, وتاريخه, وأنك إذا أردت أن تفهم شيئا جيدا, فابحث عن تاريخه.

النبات, الحيوان, الدول, حتى الناس في المهن, والبيوت والشوارع, إنهم يتصرفون حسب تاريخ أجدادهم وآبائهم.

اندهش الأطفال, وهم يسمعون زميلهم يتكلم بهذه العبارات غير البسيطة.

قال أحدهم:

عبدالرحمن أنت في الحادية عشرة, هل هذه أفكارك?
ردد الصغير: القراءة, والمعرفة تزيد من إحساس الإنسان بنفسه.

وذهب الأطفال إلى الشيخ عمران الذي يتولى تعليمهم أصول اللغة وشرحوا له ما يبدر من زميلهم عبدالرحمن قال الشيخ:

دعوه, العباقرة دائما غرباء في الظاهر, لكنهم عقلاء في الواقع. وعندما سمع عبدالرحمن ما قاله أستاذه عنه, تشجع, ومضى في طريقه يتأمل الناس في سلوكهم, وتصرفاتهم, وأفكارهم.

واكتشف الصغير, عبر السنين التي مرّت به, أن البحث العلمي هو أصل المعرفة, فليس من الممكن الوصول إلى النظريات العلمية, دون وجود أدلة كافية, وصادقة.

ومرت الأعوام بالصغير عبدالرحمن وصار شابا يافعا, قرر أن يرحل مع أسرته إلى القاهرة, وهو يقول:

نحن الآن, في القرن الرابع عشر الميلادي, وفي القاهرة مدارس علمية ليس لها مثيل.

وشد الشاب رحاله للإقامة في القاهرة, وهناك استقبله العلماء بالترحيب الذي يليق به, وطلبوا حضوره ذات مساء لإلقاء محاضرة عن رؤيته للعلم, وجاء الشاب, وقد أعدّ نفسه لإثبات ذاته, وقال:

من المهم على العالم أن يربط بين الحوادث, وأن يقوم بقياس الماضي بقياس الحاضر, وفي هذا اللقاء اكتشف الحاضرون أن عبدالرحمن بن خلدون قد تعمّق في علم التاريخ, والفلسفة, وعلم الاجتماع.

ودعاه العلماء لإلقاء محاضرة مرة كل شهر, في المسجد نفسه, وأحسّ عبدالرحمن بأنه يجب أن يقدم الجديد دوما في كل مرة يأتي فيها إلى (مجلس العلماء).

وتحول عبدالرحمن بن خلدون إلى ظاهرة في الأوساط العلمية بالقاهرة, حيث كان يتحدث في كل الموضوعات المثيرة للاهتمام.

كان يتكلم في السياسة, وفي التاريخ, وفي التغيرات التي تحدث في المجتمع .

ووسط هذه المكانة التي تبوأها ابن خلدون قرر أن يعتزل الحياة وأن يتفرغ للتأليف, والكتابة, قال:

أريد أن أقدم للناس مرجعا علميا ضخما.

قرر أن يكتب كتابا علميا مفيدا للناس, يقع في مئات الصفحات, وأن تكون لهذا الكتاب مقدمة طويلة, يشرح فيها فلسفته وأفكاره.

وما ان بدأ في الكتابة, حتى بدا كأنه يسبح في بحر بلا آفاق.

اكتشف أن العلم كالمحيط, شديد الاتساع, يشده إليه, وصارت المقدمة كتابا كبيرا, عرف باسم (مقدمة ابن خلدون).

وعندما وصلت المقدمة إلى (مجلس العلماء) قال أحدهم:

- ياإلهي, هذه دراسة مهمة علمية في تاريخ الإنسان, ليس لها مثيل.

رد عالم آخر: أجمل ما في المقدمة اعتمادها على الأدلة والبراهين.

وراح العلماء يتناقلون الكتاب فيما بينهم.

واكتشفوا صدق ما قاله ابن خلدون في المقدمة بأن حوادث التاريخ مقيدة بقوانين الطبيعة الثابتة.

وكان أهم ما جاء في (المقدمة) أن أهمية التاريخ تكمن في فهم سلوك الإنسان الحقيقي في كل الظروف.

وصارت (المقدمة) بمنزلة حجر الأساس لتأسيس (علم الاجتماع) أحد أقدم العلوم وأهمها في تاريخ البشر, فهو العلم الذي يفسر سلوك المجتمعات, ومن خلاله يمكن وضع أسس القوانين الإنسانية.

وكان ابن خلدون أول العلماء الذين وضعوا أمام أعينهم تصوّرا صحيحاً لا يمكن أن يحدث في المستقبل, وهو يقول:

- من الحاضر, يمكن أن نفهم صورة الغد.

وفي بداية القرن الخامس عشر, كانت أوربا تتطلع إلى الشرق بإعجاب شديد, وتلقفت (مقدمة ابن خلدون) باهتمام شديد, وعندما سأل علماء الغرب عن مصير هذا الأستاذ الجليل, جاءت الاجابة:

- (ابن خلدون), مات قبل سنوات قليلة, في عام 1406 ميلادي, بالقاهرة.

 


 

محمود قاسم