سمسوم الشقي والآثار.. حسن نور

سمسوم الشقي والآثار.. حسن نور

رسوم: محمد عمر

استيقظنا مبكرين من نوم ليل الشتاء الطويل، لري أرضنا الراقدة هناك بجوار النهر، قبل أن تنفذ أشعة شمسنا القاسية من بين السحب الرمادية التي نستقبلها صباح كل يوم، وتفسح لها طريقًا إلى السماء، فتحيل أرضنا نارًا تحرق الوجوه والأبدان، نجري إلى غابات النخيل الممتدة بطول النهر الذي تطل عليه واجهات بيوتنا، وهناك نتمدد فوق مساحة الظل الذي يلقيه سعف النخيل على الأرض أسفلها حتى تجيء أمنا بالشاي، نستريح قليلاً من عناء العمل، ونرطب أجسادنا من لهيب الحرارة التي تفحمها شمسنا الجنوبية، وبينما نحن كذلك إذ بنا نسمع صراخًا آتيًا من ناحية الدور البعيدة.

قالت أمي: إنه صوت عائشة علوب.

قلت: لابد أن ابنها الشقي انفلت من بين يديها وجرى إلى الآثار حتى تعطيه ما يطلب.

ضحك رفقتي وهم يعلقون: دائمًا ما تصرخ وتبكي نادبة حظها في ولدها وهي تجري وراءه لتلحق به قبل أن يصل إلى الآثار هنااااك في المساحة الخالية بين قريتنا والقرية المجاورة.

قالت أمي: إنها لم تتعلم أبدًا من تهديدات ولدها الدائمة والتي تتحطم عند استجابتها لطلباته.

لكن...ما حكاية هذا الولد...؟

سألنا أمي، فقالت: صلوا على النبي.

فقلنا في نفس واحد: اللهم صل على النبي.

قالت: زمان...منذ ما يقرب من خمسة عشر عامًا تزوج عمكم «حسين كندر» من خالتكم «عائشة علوب» وظلا ينتظرنان سنة وراء سنة أن يرزقهما الله بمولود، حتى كانت سنتهما العاشرة لزواجهما، فحملت وعمت الفرحة القرية كلها بهذا الذي وضعت في نهايته بنتا تبارك الخلاّق، جميلة جميلة مثل القمر، فأطلقوا عليها اسم «قمر»، كبرت قمر، وما إن بدأت تخطو خطواتها الأولى وتملأ دار أبويها بمرحها وشقاوتها حتى امتلأت بطن أمها بجنين آخر، ففرحت واستبشرت خيرًا، وراحت تدعو ربها كل يوم وهي تتجه بعينيها نحو السماء، يارب ارزقني ولدًا نعتمد عليه إذا ما امتد بنا العمر وصرنا - أنا وأبوه - عجوزين لا نقدر على شيء، فاستجاب الله لدعائها ورزقها الولد، لكنه على عكس أخته إذ كان وجهه شاحبًا في لون الطمي، والجسد ضامر مثل عود البوص، حتى أنه تأخر في المشي على قدميه، فراح يزحف على رجليه وذراعيه، ويتشمم الأشياء التي تصادفه في طريقه مثل الأرانب، فسمّاه ناس النجع «سمسوم»، الذي شب مشاكسًا، وعنيدًا، مما سبب لأمه الكثير من المتاعب، ومع هذا أحبته وتعلق قلبها به، فهو ولدها الذي انتظرته طويلاً، وكانت تلبي له كل طلباته، على أمل أن يرجع إلى نفسه ويعدل من سلوكه، لكنه كان يتمادى في الإكثار من طلباته «هاتي لأشتري حلاوة»، «هاتي لأشتري فول سوداني» وإذا رفضت أو تأخرت قليلاً في الاستجابة لطلباته يرفس الأرض بقدميه ويتمرغ فوق الرمال، ويظل هكذا حتى تستجيب أمه وتعطيه ما يطلبه، وعلى الرغم من أن أباه نبهها كثيرًا بأن هذا سوف يفسده، وأن الواجب عليها أن تقوّمه، وألا تستجب دائمًا لمطالبه التي لا تنتهي، لكن دون جدوى.

وذات يوم سمع من إحدى عجائز النجع (1) أن تماثيل الآثار يسخطون الصغار الذين يقتربون منهم ويحولونهم إلى تماثيل مثلهم، ومنذ ذلك اليوم وهو يهدد أمه بأنه سيذهب إلى التماثيل إذا لم تعطه القروش التي يطلبها منها ليحولوه إلى تمثال مثلهم.

ضربت المسكينة صدرها خوفًا عليه، وأخذته في حضنها وراحت تربت على ظهره وتمسح على رأسه، لكنه خلص نفسه من بين يديها وراح يجري نحو الآثار وهي تجري وراءه، يسبقها صراخها وبكاؤها حتى لحقت به وأمسكته وناولته ما طلبه منها.

كل مرة يطلب منها القرش وهو يتأهب للجري، ولم تتعلم من تجاربها معه أنه يمارس تهديده فقط لينال ما يريد.

قمت ورفاقي نجري صوب الصوت الباكي لنجد الأم المسكينة «عائشة علوب» جالسة أمام دارها تبكي، بينما يقف زوجها بجوارها مانعًا إياها من الجري وراءه والاستجابة لطلبه، فراحت تبكي خوفًا عليه وهي تراه يجري نحو الآثار.

التففنا حولها نطيب خاطرها ونحاول تهدئتها، فهمست لنا مستجدية بأن نلحق بولدها ونأتيها به قبل أن تسخطه التماثيل تمثالاً مثلهم فرحنا نجري إلى الآثار، وهناك وجدناه ممددًا فوق الرمال في ظل أحد التمثالين الواقعين على جانبي البهو، فوقفنا بعيدًا خائفين.

قال أحدنا: لقد أناموه قبل أن يسخطوه.

قال آخر: لا...بل نام من التعب.

صاح ثالث بأعلى صوته: سمسوووم... يا سمسوووم ...

فتحرك رأسه ببطء شديد، مما دفع الولد إلى أن يصرخ ثانية باسمه... سمسوووم، وهنا راح سمسوم يتلفت يمنة ويسرة، ثم أجاب بصوت ضعيف: نعاام. جرينا نحوه فرحين، وأخذناه بين أيدينا، وجرينا به إلى بيته، لتأخذه أمه في حضنها، وهي تقبله وتبكي، وتضحك بينما أطلقت جاراتها زغاريدهن فرحًا بسلامته.

ومنذ ذلك اليوم رحنا نزاول ألعابنا بساحة الآثار بعيدًا عن الدور، حتى لا نزعج بشقاوتنا أهلينا، ولم تعد تهديدات سمسوم الشقي تجدي مع أمه الطيبة.

 

 


 

حسن نور