قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

الاصطخري
رحلة مدهـشة حول العالم

(أبي... هل هناك مدن أخرى إلى جوار مدينتنا?).

كان السؤال غريبا من الطفل الصغير, فماذا يقصد إبراهيم بالضبط?

إنه يحب مدينته الصغيرة (اصطخر) ويتجول من وقت لآخر مع أبيه بين الأسواق وفي الحديقة الصغيرة التي يذهب إليها الأطفال في المناسبات السعيدة.

ضحك الأب (محمد الفارس), وقال:

- طبعا... هناك مدن أخرى.. وقرى.. وصحراء.. وبحار.. وأنهار.. وجبال... كل منها إلى جانب الآخر.

كان الصغير (إبراهيم) يتصور أن مدينته الصغيرة هي المكان الوحيد في العالم, وأنها البداية والنهاية, وعندما حدثه أبوه, وهو في الثانية عشرة من عمره, عام 339 هجرية, عن العالم الواسع من حوله, شرد الصغير وقال لنفسه:

- ترى كيف يكون هذا العالم?... يجب أن أتخيل شكله...

وراح الصغير يتخيل كيف تكون البلدان الأخرى, وعرف من أبيه أن الله خلق البشر بمختلف الأشكال, والألوان والأجناس.

قال الصغير:

- إذن, فالانسان يكون حسب المكان الذي يعيش فيه.

وكبر معه التخيل, وذهب إلى الشيخ (عرجون) وعرف أنه تجول في الكثير من المدن ونصحه الشيخ قائلا:

- اذهب إلى السوق, وقابل الناس هناك...

واستمع إلى نصيحة الشيخ, وفي السوق كانت المفاجأة, فالناس بالفعل متعددة في ألوان البشرة, وسمات الوجوه, وقرر في هذا اليوم أن يرحل إلى المدن التي جاء منها هؤلاء التجار, وأن يشاهد بلادهم.

لكن أباه قال له:

- انتظر حتى تكبر... وتتمكن من السفر وحدك...

وتمنى الصغير (إبراهيم) أن يكبر بسرعة لكن الأمر ليس ممكنا, وقرر أن يعود إلى الشيخ, وطلب منه العديد من الكتب حول البلدان.

وقضى الصغير سنواته في سماع أخبار البلاد, والأقاليم, وقرأ ما تيسر له من معلومات, وكان كلما قرأ يردد في داخله.

- يا إلهي... كم أشتاق حنينا لرؤية هذه البلاد...!!

وفي عام 951م كانت البداية, راح يودع والده العجوز, وأمه الطيبة, وقال:

- مكثت في مدينتي (اصطخر) عشرين عاما... الآن جاء وقت الرحيل...

قال الأب, وهو يغالب دموعه:

- علمتك كيف تكون شجاعا.. اكتب لي كلما سافرت, وارسل خطاباتك مع الحمام الزاجل...

وبدأت الرحلة الطويلة من (اصطخر) إلى بلاد العرب, فانطلق فوق جمل مع قافلة, وجاب الصحراء, التي دفعت به إلى شاطئ البحر, وأدرك أن الله خلق الدنيا واسعة, البحار لا حدود لها, والصحراء لا تكاد تنتهي.

وتذكر والديه, وقرر أن يكتب لهما...

ولم يكن هناك أجمل من أن يصف لهما البلاد التي مر بها, والناس الذين يدعونه على الغداء, وأمطروه بالكرم, وكيف شاهد المباني الغريبة, في كل بلد هناك بناية تميّزه... في مصر شاهد مبنى ضخما يقال إنه (هرم) وفي المغرب رأى الآثار التي بناها القدماء, وعندما وصل إلى مكة المكرمة بكى من الخشوع, والإجلال. وفي رحلته التقى بالعلماء الذين أحسنوا استقباله, قال له أحدهم:

- يابني... لقد اخترت الطريق الصعب, والجميل... فهنيئا لك... لكن... إلى أين المسير?

هز (إبراهيم الاصطخرى) رأسه, وقال:

- يا سيدي... في البداية, خرجت من مدينتي على غير هدى... باغياً السياحة... والآن اكتشفت أن للبلدان علما, لكن مصادرها غير معروفة...

إنه يحاول أن يبحث عن مصادر علم مهم في حياة البشر, علم البلدان, المعروف باسم الجغرافيا.

وراح يصف كيف تكون البلدان, وفي طريقه إلى الهند, عثر على كتاب مدهش راح يتصفحه ويقول:

- يا إلهي.. هذا هو ما كنت أبحث عنه...

وتأمل عنوان الكتاب في شغف, إنه (صور الأقاليم) الذي ألفه (أبو زيد البلخي) أحد أشهر علماء البلدان في تلك السنوات.

وقضى أياما في أحضان الكتاب المدهش...

واستكشف العديد من البلدان التي لم يتمكن من زيارتها, فقال في نفسه:

- كلما توغلت في البلدان, اكتشف أن العالم اكثر اتساعا مما كنت أتصور...

وقرر أن يؤلف كتابا عن الأقاليم التي زارها, ولم يرد لها ذكر في كتاب (البلخي) وعكف على تأليف كتاب بنفس الاسم (صور الاقاليم). وفي الكتاب وصف رائع لكل المدن التي زارها, ورسم جغرافي للطرق الموصلة بين هذه المدن. إنها الخريطة الأولى لهذه البلدان في التاريخ.

وأحس الشاب بالسعادة, عندما امتدح العلماء هذا العمل, فقال له أحدهم:

- يا عزيزي (إبراهيم)... لقد قدمت للعلم والرحالة, خدمات جليلة لن ينساها لك التاريخ.

ورغم المديح الذي سمعه, فإنه قرر أن يؤلف كتابا جديدا, يتحدث فيه عن رحلته إلى بلاد الأتراك, والأنهار التي مر بها, وعن بلاد فارس, والشام وبحر الروم الذي عبره فوق مركب صغير, وعن (كردستان) إلى أحب أهلها, وتزوج منها, ثم عن إقليم السند وأرمينيا وأذربيجان.

ولأن (إبراهيم) يجيد الرسم, فقد جاء كتابه الجديد تحفه مرسومة, وحمل عنوان (مسالك الممالك) وضم الكتاب 299 لوحة, وخريطة جديدة تصف ممالك ذلك العصر.

وبدأ المشيب يخط رأس الرحالة الشاب, الذي لم يتعبه السفر, وأحس مع كل رحلة جديدة بالشوق الجارف إلى أن يتعرف على أناس مختلفين, وعلى أماكن لم يرها أحد من قبل. ووصلت أخبار الكتاب إلى العلماء في كل أنحاء العالم...

وقرر العلماء أن يلتقوا في مملكة (ايرانشهر) التي وصفها (إبراهيم) واعتبرها البلد الأحسن استقامة ضمن البلدان التي زارها. وفي اللقاء العلمي... أثنى العلماء على الكتاب, وردد أحدهم:

- في هذه الكتب فوائد عظيمة... تنهل منها الأجيال... من كل الأعمار. ساعتها, رأى إبراهيم طفلا صغيرا, حاضرا في الاجتماع, فاقترب منه وقال:

- سوف أضع كتابي هنا, في خزانة المسجد, فتعال لقراءته, حين تشتاق إلى السفر.

سأله الصغير: السفر... ماذا تقصد?

وتذكر (إبراهيم) أباه, وقرر أن يعود إلى مدينته التي بدأ منها, من أجل أن يضع نسخة من كتابه هناك...

ولايزال الكتاب في مكانه, ينسخ منه العلماء, ويستفيد منه الجميع.

 


 

محمود قاسم