الحذاء الملكي (قصة من الأدب الهندي)

الحذاء الملكي (قصة من الأدب الهندي)

ترجمتها عن الفرنسية: منال حلمي ضيف الله
رسوم : محمد يونس

في بلاد بعيدة عن عيوننا وعن زماننا.. حيث نجد القصور الفاخرة وملوكا تركب الأفيال.

في تلك البلاد الجميلة المبهرة، كان هناك ملك يرتدي أبهى الملابس المزينة بمختلف أنواع الجواهر الثمينة.. إلا أنه للأسف كان غير نظيف.. هل فهمت ما أعنيه؟ فقد كان هذا الملك لا يستحم أبدًا.. أبدًا، فالماء والصابون بالنسبة له لتنظيف الملابس وأشياء أخرى كثيرة، لكنه لا يعرف نظافة الجسد. ولذلك نجد أن رائحته كريهة رغم نظافة ملابسه وفواح عطره، وقد تضطر حاشيته إلى حبس أنفاسهم عند الاقتراب منه، ويسارعون إلى سد أنوفهم بمجرد أن يدير الملك لهم ظهره، ولكن من لديه الشجاعة الكافية ليبوح له بذلك!! إنه الملك!؟

وفي الأوقات التي يقرر فيها جلالته التجول في أنحاء مملكته بمصاحبة موكبه الضخم من الحاشية والفيلة لتفقد أحوال رعيته كان سكان المملكة يقفون مشدوهين مبهورين في آن واحد من فخامة الموكب حتى أنهم لا يلاحظون رائحته الفظيعة، أو أنهم يظنون أن تلك الرائحة تنبعث من الفيلة المصاحبة للموكب.

وفي يوم، وصل الملك إلى إحدى القرى الصغيرة التي كان يقوم بزيارتها لأول مرة فالتف حوله سكانها سعداء بقدومه، واقتربت منه فتاة صغيرة، لتضع حول عنقه إكليلاً من الزهور تحية منها للملك الذي استقبلها بابتسامته الملكية.

وما أن وضعت الفتاة الإكليل حول عنقه حتى هبّت مسرعة مبتعدة عنه ووجهها يعلوه الاستياء وهي تسد أنفها الصغير بكفها.. وقالت في براءة وصدق طفولتها:

- يا إلهي.. إن رائحتك كريهة!!

وكانت نبرات صوتها عالية وصلت إلى مسامع كل الموجودين، فانتفضت الأم تشدها من أذنها في ارتباك وخجل قائلة:

- يا لك من فتاة غبية! إنه ملكنا، وملكنا ليست رائحته كريهة.

ولكن الفتاة أكملت بإصرار:

- إنني متأكدة من أنها رائحته هو.

ثم نظرت إليه قائلة:

- ألم تستحم أبدًا من قبل؟

وأجابها الملك قائلا:

- أستحم!! ولماذا أستحم؟

- ثم التفت إلى أحد معاونيه قائلا:

- هل تستحم أنت؟

وكان الملك يتوقع أن يجيبه بالنفي، إلا أنه أجاب بترقب وخوف:

- أحيانًا يا سيدي.

فالتفت الملك إلى شخص آخر وسأله السؤال نفسه:

- هل تستحم أنت أيضًا؟

فأجابه في تردد قائلا: «نعم يا سيدي».

وظل الملك يسأل كل من يقع عليه بصره، وكانت إجابتهم جميعًا بالإيجاب «نعم إننا نستحم».

وعندما اكتشف الملك أنه الوحيد الذي لا يستحم أبدًا، تعكر مزاجه وشعر بغضب كبير.. وصرخ قائلاً:

- حسنًا سأستحم أنا أيضًا.. الآن.. وهنا في هذا النهر.

وفي الحال انقلب المكان رأسًا على عقب.. فأسرع الخدم والحراس في إعداد الحمام اللائق بجلالته من صابون ومنشفة، كما قاموا بعمل ستار حول النهر كي ينعم سعادته بحمام هادئ وسعيد.

وفي اللحظة التي نزل فيها الملك النهر.. شعر الجميع بارتياح، وسرعان ما استرسل الملك في الغناء سعيدًا بفقاعات الصابون تطفو وتنزلق فوق جسده تدغدغه فتنعشه وتبعث إليه بالراحة.

وظل الملك يدندن بالأغاني إلى أن انتهى من ارتداء ملابسه، وعندها نظر إلى النهر قائلا:

- يجب أن أكرر هذه المحاولة مرة أخرى.. ربما تكون في العام المقبل.

وما هي إلا خطوات على شط النهر حتى صرخ الملك قائلاً:

- يا إلهي لقد اتسخت رجلي بالرمال والأتربة.

وأسرع الملك إلى ماء النهر واقفًا فيه بضع لحظات حتى زال عن قدميه التراب وقام الخدم بتجفيف قدميه جيدًا كي لا تلتصق بهما الرمال مرة أخرى.

وتكرر ما حدث مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، حتى تعب الملك وتعب كل من حوله، وأخيرًا صرخ فيهم قائلاً:

- هذا المكان غير نظيف .. فمتى ستقومون بتنظيفه؟

وفي التو انتفض الجميع يتسابقون على تنظيف المكان، وكل شخص منهم يحمل في يده إما دلوًا أو مكنسة أو فرشاة...وما هي إلا لحظات حتى أصبح المكان في غاية النظافة.

وجلس الجميع يلتقطون أنفاسهم وهم ينظرون إلى قدمي الملك في ترقب وحذر...وتقدم الملك خطوة واثنتين وثلاثًا، وفجأة صاح الملك:

- يا إلهي...لقد اتسخت قدمي مرة أخرى...ماذا أفعل الآن؟

وهرع الملك إلى النهر لإزالة ما علق بقدميه...وفي هذه اللحظة، ظهرت الفتاة الصغيرة التي تسببت في هذه الأزمة وهي تحمل بيدها سجادة صغيرة من جلد الماعز، وقامت بفرشها على الرمال أمام قدمي الملك الذي أعجبته الفكرة وخطا بقدميه فوق السجادة التي سرعان ما وصل إلى نهايتها.

عندها أسرع أهالي القرية كل إلى بيته لإحضار ما لديهم من سجاد، وأخذوا يفرشونها أمام قدمي الملك سجادة تلو الأخرى، وكان الملك سعيدًا بهذه الفكرة، وظل يمشي فوق السجاد الممدود أمامه إلى أن وصل إلى قصره.

وفي اليوم التالي، اجتمع الملك بوزرائه وطلب منهم أن يتم فرش كل الطرق الموجودة بالمملكة بالسجاد حتى لا تتسخ قدماه وتظلان نظيفتين أينما ذهب.

ومنذ ذلك اليوم، ظل الملك سعيدًا بنظافته، إلا أنه لم يعد هناك أحد يلتف حوله عند مروره على القرى والمدن لتفقد أحوال أهلها والاستماع إلى شكاواهم وكانوا يكتفون بمراقبته من بعيد في حزن وأسى.

ومر عام على هذه الحال، حتى قرر الملك العودة إلى ذاك النهر للاستحمام مرة أخرى، ولكنه وجد نفسه وحيدًا، لم يجد من يرحب به ويهتف له ويحييه، وفجأة ظهرت من جديد تلك الفتاة الصغيرة التي كبرت قليلاً، فهل تذكرتها؟

ودنا الملك منها مرحبا وتساءل: أين أهالي القرية؟ ماذا فعلت حتى يستاءوا مني ويبتعدوا عني؟ ولماذا كل هذا الحزن الذي يعم القرية؟

فأجابته قائلة:

- لأنهم يا مولاي لا يجدون شيئًا يأكلونه، فقد أمرت يا مولاي أن تغطى المملكة كلها بالسجاد، فلم يعد هناك نبات ينمو أو زرع يزرع.

وطأطأ الملك رأسه في أسى ناظرًا إلى قدميه النظيفتين وقال محدّثًا نفسه:

- ماذا أفعل؟ فأنا لا أريد أن تتسخ قدماي عندما أمشي مرة أخرى... فهل هناك بديل؟

فأجابت الفتاة:

- لابد من إيجاد حل آخر.

واختفت الفتاة فجأة، وعادت بعد لحظات مسرعة تحمل في يدها مقصًا كبيرًا، وانحنت الفتاة أمام الملك وأخذت تقص السجاد الجلد حول موضع قدم الملك اليمنى ثم اليسرى، والملك يرمقها بدهشة واستغراب، ثم قامت بعد ذلك بربط قطعة الجلد حول قدمي الملك بخيوط من الجلد كي يستطيع الملك أن يمشي بخفة ويظل الحذاء ثابتًا في قدميه.

وما هي سوى لحظات حتى انتهت من مهمتها وعندها قالت لجلالته:

- ما رأيك يا مولاي؟ الآن حصلت على غطاء لقدميك من الجلد النظيف كي تظل قدماك نظيفتين أينما ذهبت.

وهذه هي كيفية عمل أول حذاء، وصار جميع من في المملكة يمتلك حذاء من السجاد الجلد وأصبحوا جميعًا ذوي أقدام نظيفة.