قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

الطبري الوعاء المدهش

تساءل الصغير «علي» في براءة:

- هل يجب أن أصبح مثل أبي...طبيبًا؟

حدث ذلك عام 780 م، كان الصغير في العاشرة من العمر، حيث جلس إلى أمه، التي راحت تحدّثه عن شجرة العائلة الطويلة، عبر الزمن، وعلم منها أن عائلة أبيه «سهل بن ربن الطبري» قد توارثت الطب، أبًا عن جد.

العائلة تسكن في مدينة صغيرة تسمى «مرو»، ضمن دولة «طبرستان»، مدينة تعيش في أعماق طبيعة ساحرة، أما الأب «سهل»، فهو رجل ذو حسب ونسب، يعشق الأدب، والطب، والفلسفة. كانت الأم تعرف جيدًا أن زوجها وضع خطته لتعليم الصغير مبادئ علوم وفنون ذلك العصر، أسوة بأبناء الطبقة الغنية في المدينة، لذا حرص الأب على أن يعلم ابنه اللغات المهمة في تلك الفترة، خاصة اللغتين العربية، والسريانية، وقال له:

- تعليم اللغات، مفتاح التوصل إلى فهم الثقافات.

لذا، فإن «علي الطبري» قد أتقن أيضًا اللغتين العبرية، واليونانية، وهو يستعد لدراسة الطب، والهندسة، والفلسفة, وشب الصغير، وهو يستوعب المزيد من المعلومات التي تناسب عصره, واكتشف أن الكتب وحدها لا تكفي لاستيعاب العلم، بل عليه أن يسافر إلى بلاد بعيدة، كي يبحث عن المعرفة من أصحابها، وباركه أبوه، وهو يودعه، وبكت أمه وهي تقول:

- بغداد بلد العلم، لا تنس ما نصحك به أبوك.

ووصل الشاب إلى بغداد، وراح يبحث عن الأماكن التي يتردد عليها العلماء، وعندما التقاهم، أثار دهشتهم، وهو الشاب الصغير، بكل هذه اللغات التي يتقنها. والمعرفة التي يمتلكها، فوضعوه في دائرة اهتمامهم، وأعاروه ما لديهم من كتب علمية وثقافية.

واكتشف «الطبري» أن العلم ليس له وطن، وأنه جاء من اليونان، حيث أرسطو، وأفلاطون، ومن الهند، حيث الحكماء قد توصلوا إلى معاني عدة للحقيقة.

وطلبه الخليفة كي يقوم بالتدريس لتلاميذ مدرسة الطب، وكان ذلك حدثًا كبيرًا في حياته، وقال للخليفة:

- أعاهدكم أن أبذل ما بوسعي...يا مولاي...

وبدأت مهمته في تعليم التلاميذ كيف يكون الطب، وكان أول شيء فعله هو تأليف كتاب، يرجع إليه التلاميذ، وكان الكتاب بعنوان «فردوس الحكمة».

وعكف على تأليف الكتاب شهورًا طويلة، واعتمد فيه على كتب أساتذة في الطب سبقوه، ومنهم أطباء إغريق، وعرب، وهنود.

رتب «الطبري» كتابه بحيث يكون مرجعًا وافيًا، فالطب ليس علمًا منفصلاً عن بقية المعارف، لذا، فإن الفصل الأول تضمن شروحًا فلسفيًة وحديثًا عن النفس البشرية، أما الفصل الثاني، فقد تحدث فيه عن علم «الأجنة»، و«الولادة» وعن طب الأطفال، وعن فصول السنة.

وحوى الكتاب أيضًا ما يتعلق بالغذاء المفيد للصحة، وفي الفصل الرابع، قام بتقسيم الأمراض حسب أعراضها، وطرق علاجها، وكان أول من يقوم بتصنيف الأمراض، ابتداء من تلك التي تصيب الإنسان من رأسه حتى قدميه.

ولاحظ التلاميذ أن أهم ما في الكتاب هو سهولة تصنيفه، وقال واحد منهم معلقًا على ما قرأه:

- شدني ما جاء في الفصل الخامس عن الروائح، والألوان، لكن، هل لهذه علاقة بالطب؟

وأحسّ الأستاذ «الطبري» بقيمة السؤال، فقال:

- الحياة...طب...فلو تأملت ما في الحياة، ستجد له علاقة بالطب...الألوان...الغذاء...الروائح...المذاقات.

وأخذ يعدد أشياء كثيرة، مثل الرياح، والمياه، والفلك، والزراعة، فكل شيء يصب في الطب والطب هدفه صحة الإنسان.

واستقبل التلاميذ الكتاب بحفاوة شديدة، وشجع هذا «الطبري» أن يكتب المزيد من الكتب العلمية المتخصصة، مثل «كتاب في الأمثال والأدب على مذاهب الروم والعرب».

وذاع صيت الطبري في بغداد، ودمشق، والقاهرة، والأندلس إلى أن جاءته رسالة من أمير «طبرستان» يطلب منه العودة إلى بلاده لخدمة مواطنيه، ولم يتأخر الرجل في السفر عائدًا، وهناك كان اللقاء الحميم مع أستاذه «أبو بكر الرازي».

وراح «الرازي» يقرأ على تلميذه المزيد من كتب الطب... واستغرق «الطبري» وقته في تلقي العلم، وهو يقول:

- كل وعاء يمتلئ بما يوضع فيه، إلا وعاء العلم، إنه وعاء ساحر، يقول دائمًا هل من مزيد.

وما لبث «الطبري» أن عاد إلى بغداد، مرة أخرى، وتولى منصبًا مهمًا في ديوان الخليفة المعتصم الذي كان يثق فيه كثيرًا...

وعندما تولى الخليفة المتوكل، أمور المسلمين، طلب «الطبري»، وقال له:

- كيف لعالم مثلك، لم يكسبه الإسلام دينًا، حتى اليوم؟

ردّ «الطبري» على الفور:

- يسكن الإسلام قلبي منذ سنوات...وهأنذا أعلن أنه «لا إله إلا الله محمد رسول الله».

وعانقه الخليفة وهو يغالب تأثره...ولم يكن يعرف أنه لن يمر عام إلا ويرحل» علي بن سهيل بن ربن الطبري» مسلمًا إلى عالم آخر، في عام 850 م.

 

 


 

محمود قاسم