جدي الذي أُحبه.. لطيفة بطي

جدي الذي أُحبه.. لطيفة بطي

عندما عادت ريم من المدرسة ظهرًا دخلت غرفة جدها لتخبره بنجاحها، لكنه لم يكن كالعادة في غرفته جالسًا إلى مكتبه يطالع أحد كتبه، ووجدت أباها يجلس على طرف سرير جدها حزينًا، سألت ريم: أبي أين جدي؟ لقد نجحت.

رفع أبوها رأسه وقال: لقد تعرض جدك اليوم إلى ضعف شديد في صحته ونقلناه إلى المستشفى وسيستغرق علاجه وقتًا طويلاً.

تأثرت ريم بما سمعت من والدها وجلست على السرير تستذكر عطف جدها وحنانه الذي كان يغمرها به، وأشياءه الصغيرة التي كان ينقدها إياها أحيانًا، قطعة شوكولاته يخبئها في جيبه أو قطعة حلوى يستخرجها من درج مكتبه أو نقودًا قليلة يطلب إليها أن تدخرها في حصالتها، يستذكر معها عصرًا دروسها وأيام الإجازة يصطحبها إلى الحديقة لتمرح مع الأطفال بينما يمضي هو الوقت يمارس رياضة المشي أو يقرأ في كتاب أو يتبادل الحديث مع حارس الحديقة، وفي كل مساء لا ينسى أن يحكي لها قصة ما قبل النوم.. (فر من أمام الفيل أسد مذعور وردد ماذا يريد هذا الفيل المجنون منى؟!) قصتها الصغيرة المفضلة التي يبتدئ بها كل ليلة وتشاركه ريم في سردها والضحك من أحداثها المتتابعة كحلقة دائرية قبل أن يسرد لها حكاية جديدة، وعندما تسأله ريم: جدي كيف تعرف كل تلك الحكايات؟ ألا تنتهي حكاياتك؟

يقطب الجد حاجبيه ويشير إلى رأسه: في رأس جدك بحر مليء بالقصص والحكايات الشيقة كلما غرفت منه لا ينفد!

وتسأل ريم متعجبة: من أين جاء بحر الحكايات في رأسك يا جدي؟

ويشير الجد إلى الكتب في مكتبته ويقول: من هذه الأمطار يا ريم! ويضحكان معا ويحكي.

مضى وقت طويل قبل أن يتقرر خروج الجد من المستشفى ولم تحظ ريم بفرصة واحدة لزيارته فأبوها قد أخبرها أن الزيارة ممنوعة عن الجد إلا للكبار فقط وعندما أخبرها أنه سيعود بجدها عصر ذلك اليوم، ابتهجت وسرت كثيرًا وجهزت هديتها التي ستقدمها لجدها حين حضوره، حمل الأب ريم وأجلسها في حضنه وقال: جدك لن يعود كما كان يا ريم.. وصمت الأب وبدا أنه لا يستطيع المتابعة.

لم تفهم ريم كلمات والدها، لكنها شعرت أن شيئًا خطيرًا أو سيئًا قد حدث لجدها، طفرت الدموع من عينيها وتأوهت: جدي الحبيب ماذا حدث له يا أبي؟

بعد لحظات أجاب والدها: جدك لن يصبح بعد اليوم قادرًا على الحركة ولن يصبح قادرًا على النطق والكلام، كلنا سنفتقد حركته وصوته في المنزل.

صاحت ريم بألم: ولكن لماذا لم يعطوه في المستشفى دواء يعيد إليه صحته؟!

ضم الأب ريم إلى صدره وقال: المرض الذي أصيب به جدك ليس له علاج لكننا سنصبر وندعو له دائما بالشفاء.

عندما أحضر الأب الجد عصر ذلك اليوم وأرقده في فراشه، تسللت ريم تسترق النظر عبر الباب الذي لم يكن مغلقًا جيدًا، كانت تخشى رؤية جدها على حال غير الحال الذي اعتادت عليه، وكانت خائفة من أن المرض الذي أصابه قد غيّر من شكله فلا تعود تعرفه كما كان قبل أسابيع، عندما لمح الأب ريم عند الباب طلب إليها الدخول، خطت ريم إلى داخل الغرفة بصعوبة ووقفت قرب السرير كانت ترغب بأن تقفز إلى حضن جدها كما اعتادت كل يوم لكنها خشيت أن تؤذيه فجدها كما قال أبوها لم يعد كما كان، صدر عن جدها همهمات وأصوات غير مفهومة وكانت شفتاه متدليتين إلى الخارج ومائلتين فيما جسده كان ممددًا ومغطى بفراش السرير.

رفع الأب ريم إلى السرير لتقبل جدها، مسحت ريم وجهها في صدر جدها وبكت ولم يستطع الجد ضمها بين يديه كما كان يفعل دائمًا فيداه معطلتان عن الحركة، همست ريم في أذن جدها: سأدعو لك بالشفاء كل ليلة يا جدي.

مضت الأيام والجد حبيس فراشه يمنعه المرض من مغادرته كما أن الأسرة والأقارب كانوا يجدون صعوبة في التفاهم معه فلا يعرفون بماذا كان يرغب أو بماذا كان يشعر، كل ما يصدر عنه مجرد أصوات غير مفهومة لا يعرفون منها إن كان يطلب ماء أو هو جائع أو هو يشعر بألم في جسده، كانت ريم ترقب كل ما يحدث لجدها وتشعر بالحزن والأسى له إذ لم يعد بإمكانه النطق والتعبير عما يرغب به وحين يرى أن لا فائدة من همهمته وأن أحدًا لا يستطيع فهمه يلوذ صامتًا حزينًا أو يثور بعض الأحيان غاضبًا لكن دون أن يستطيع نطق كلمة واحدة مفهومة، شعرت ريم بأن جدها عاد صغيرا كطفل رضيع بحاجة لمن ينظفه في كل يوم ويطعمه ويسقيه ويعتني ويهتم بكل شئونه، وتذكرت أنه كان دائمًا يخبرها أنها عندما كانت صغيرة كان يلاعبها في مهدها ويعلمها الكلمات - قولي يا ريم: جدي.. وكانت تقلده وتقول: ددي! وكان يضحك ويقبلها ويقول: أنت حبيبة جدك يا ريم لقد نطقت كلمة جدي حتى قبل أن تنطقي كلمة ماما وبابا!

في كل مساء ترقد ريم في فراشها وتفكر في طريقة يستعيد بها جدها النطق والكلام ويتردد في سمعها صدى صوته عندما يكون سعيدًا أو غاضبًا، قارئًا إحدى القصص أو حاكيًا حكاية ما.. عندما أغفت ريم شهدت في حلمها أنها وجدها كانا في حديقة ذهبية وكل ما فيها ذهبي، أشعة الشمس، الورود والأشجار، النوافير وقطرات الماء، كانا يلعبان معا يجري خلفها وتهرب منه، يختبئ منها وتبحث عنه وعندما تعبا من اللعب جلسا على أحد الكراسي الذهبية وأخذا يقرآن في كتاب غلافه وأوراقه ذهبية وتفتحت أمامهما وردة ذهبية تحولت أوراقها إلى ألوان قوس قزح وكانت كل ورقة من أوراق الوردة تمتلئ بالصور والرسومات المختلفة، امتدت يد ريم لتقطف الوردة لكن.. كانت يد أمها تزيح عنها الغطاء وتوقظها للذهاب إلى المدرسة، تقلبت ريم في فراشها وهي تسترجع مشاهد حلمها في ذهنها ثم نهضت وتسللت إلى غرفة جدها، ألقت نظرة عليه كان نائمًا ويصدر عنه شخير عال، ابتسمت وذهبت تستعد للمدرسة.

في الفصل كانت المعلمة قد ألصقت على السبورة بعض البطاقات المدون عليها بعض الأحرف كانت تطلب من التلميذات أن يشكلن كلمات من تلك الحروف وتنافست التلميذات في تكوين وابتكار الكلمات من الحروف وشعرن بالسعادة والمتعة كلما نجحن في ابتكار كلمة جديدة، عندما أنهت ريم تمرينها من الأحرف، تذكرت حلمها في الليلة الماضية وتذكرت جدها وهتفت من قلبها، شكرًا لك معلمتي على هذا التمرين الممتع والجميل، جدي الذي أحبه سيحبه أيضًا، اليوم سيتحدث جدي وسنفهم جميعًا ماذا يريد أن يقول.

عادت ريم سعيدة إلى المنزل وانكبت على مكتبها استخرجت بعض البطاقات الملونة وكتبت على ورقة بيضاء الأحرف أ، ب، ت، ث ثم سحبت بطاقة صفراء وكتبت عليها ج، ح، خ وبطاقة خضراء كتبت عليها د، ذ، ر ، ز وبطاقة حمراء كتبت عليها س، ش، ص، ض، ط، ظ وبطاقة زرقاء كتبت عليها ع، غ، ف، ق، ك، ل وبطاقة بنفسجية كتبت عليها م، ن هـ، و، ي وعندما انتهت وضعت البطاقات مع كراسة وقلم في علبة وخبأتها خلف ظهرها ودخلت إلى غرفة جدها، رأت الفرحة في عيني جدها لرؤيتها، فقفزت إلى السرير بقربه فهمهم بأصوات فهمت منها ريم أنه يسألها عن يومها الدراسي كما اعتاد دائمًا، ابتسمت ريم وقالت: كان يومًا جميلاً والأجمل أنني تعلمت شيئا سيجعلك تتحدث إليّ بكل ما ترغب، لن يكون من الصعب أن نفهم ماذا تريد أن تخبرنا به، هل تصدق ذلك يا جدي؟! همهم الجد وكأنه يبدو مندهشًا وغير مصدق لكلمات ريم التي ضحكت واستخرجت البطاقات والكراسة والقلم من العلبة وقالت: اسمعني يا جدي، هذه البطاقات الملونة كتبت عليها الأحرف الهجائية وقسمتها إلى ست بطاقات كل كلمة تريد قولها وترى أن حرفًا من أحرفها مكتوبًا على إحدى البطاقات تهمهم لي سأسجله في الكراسة حتى نكون الكلمة التي تريد قولها، ما رأيك أن نجرب؟ هيا يا جدي فكر بكلمة.. همهم الجد بعد لحظات وكأنه يطلب إلى ريم أن تبدأ اللعبة، قالت ريم:

حسنًا يا جدي، هل الحرف الأول من الكلمة في البطاقة البيضاء؟ ولم يهمهم الجد ففهمت ريم أن الحرف غير موجود وانتقلت إلى البطاقة الصفراء لكن الجد لم يهمهم أيضًا، حسن وهل هو في البطاقة الخضراء؟ واستمر الجد على هدوئه، حسنًا هل هو في البطاقة الحمراء؟ وهنا همهم الجد ففرحت ريم وقالت والآن سأنطق الحروف وإذا سمعت الحرف المطلوب فهمهم لي من جديد لأكتبه في الكراسة، هل هو س؟ صمت الجد، هل هو ش؟ همهم الجد موافقا وكتبت ريم في كراستها حرف الشين، ثم قالت الآن يا جدي سننتقل إلى الحرف الثاني من الكلمة، عرضت ريم البطاقات على جدها حتى وصلت إلى البطاقة الزرقاء فهمهم الجد وقالت ريم: هل هو ع؟ غ؟ ف؟ ق؟ ك؟ عند حرف الكاف همهم الجد فكتبت في كراستها حرف الكاف، وتابعت عرض البطاقات لتتوصل إلى الكلمة التي يرغب جدها بقولها وعندما اكتملت الأحرف على الكراسة ربطت ريم بين الأحرف وتهجتها ونطقت (شكرا) هل هذه الكلمة التي كنت تريد قولها يا جدي؟ همهم الجد بسعادة وصدرت عنه حركات خفيفة وكأنه يود تقبيل ريم واحتضانها، مسحت ريم رأسها على صدره وقالت: شكرًا لك أنت يا جدي، هل تريد أن تقول كلمة أخرى، هل نلعب من جديد؟ همهم الجد واستعرضت ريم بطاقاتها له حتى تكوّنت لديها كلمة (قصة) فضحكت: جدي هل تريد أن أحكي لك قصة؟ حسن اسمع هذه، فرّ من أمام الفيل أسد مذعور وردّد ماذا يريد هذا الفيل المجنون مني؟! وفرّ من أمام الأسد نمر مذعور وردّد ماذا يريد هذا الأسد المجنون مني؟ وفرّ من أمام النمر ذئب مذعور وردّد ماذا يريد هذا النمر المجنون مني؟! وفرّ من أمام الذئب ثعلب مذعور وردّد ماذا يريد هذا الذئب المجنون مني؟! وفرّ من أمام الثعلب كلب مذعور وردّد ماذا يريد هذا الثعلب المجنون مني؟! وفرّ من أمام الكلب قط مذعور وردّد ماذا يريد هذا الكلب المجنون مني؟! وفر من أمام القط فأر صغير وردّد ماذا يريد هذا القط المجنون مني؟! وفر من أمام الفأر فيل مذعور وردّد ماذا يريد هذا الفأر المجنون مني؟! وفر من أمام الفيل أسد مذعور..

 


 

لطيفة بطي