ساعي البريد

ساعي البريد

كان العم (مسعود) ساعي البريد رجلا عجيبا, فما إن يدخل البلدة حاملا حقيبته المليئة بالخطابات, حتى تلتف حوله الطيور متقافزة على كتفيه ورأسه وتظل تحلق حوله مخفية جسده النحيل. كان عجوزا جدا وفقيرا, ويأتي للبلدة مرة كل أسبوع حاملا آلاف الخطابات من الأصدقاء في البلاد البعيدة. الأطفال قبل الكبار كانوا ينتظرون دقاته على الباب, بمجرد أن ينتهي العم (مسعود) من تسليم كل الخطابات لأصحابها, كان يجلس تحت شجرة عجوزة مثله, ويخرج من حقيبته نايا, يظل يعزف به ألحانا يختلط فيها الفرح بالحزن, ثم ينام تحت ظل الشجرة حتى الصباح قبل أن يغادر البلدة.

كثيرا ما عرض عليه أهالي البلدة أن يقضي ليلته في بيوتهم بدلا من نومه في العراء, ولكنه كان دائما يرفض. كان يقول: لقد عشت حياتي كلها متجولا, أسلم الخطابات للناس, وأنام تحت أي شجرة, وسعادتي الوحيدة تكون حيث أرى الفرحة في وجوه الناس وهم يتسلمون الخطابات. كان أهالي البلدة جميعا يعرفون حكايته, فقد كان له أبناء كثيرون, ولكنهم سافروا جميعا وتركوه وحيدا. كل ذهب إلى بلد مختلف ولغرض مختلف, هناك من سافر بحثا عن رزق جديد, وهناك من سافر لكي يرى الدنيا ويستمتع بالترحال. استقروا بعيدا عنه, ولم يتسلم خطابا واحدا يطمئنه عليهم, كان ينتظر ملهوفا أي طرقة على الباب تحمل له خبرا عنهم, ولكن أمله كان يخيب دائما. اشتدت عليه الوحدة, فقرر أن يعمل ساعيا للبريد لكي لا يتألم الناس مثله من غياب الأحباب.

كان يحمل خطابات الفرحة, كما كان يحمل خطابات فيها أخبار حزينة, وكان يقول دائما, كم تمنيت أن يجيء يوم لا أحمل فيه أي رسالة تسبب الحزن لمن يتسلمها, ولكنها حكمة الحياة, أوجد الله الأحزان ليعرف الإنسان قيمة الأفراح. ورغم أن الابتسامة لم تكن تفارق أبدا وجه العم (مسعود) المليء بالتجاعيد, إلا أن عينيه كانتا تحملان على الدوام حزنا غامضا, ونظرة شاردة مليئة بالمعاني التي كان الجميع يحاولون معرفتها.

كان الأطفال يحبّونه, كانوا يسألونه عن سنّه فيقول: إنني عجوز جدا لدرجة أنني لا أستطيع تحديدعمري بالضبط, ولكن بداخلي طفلا لأنني أحمي قلبي من أعداء القلوب. وكان يضحك من أعماق قلبه ويقول: حين كان أبنائي في مثل أعماركم كانوا يشبهونكم, فالأطفال متشابهون لأنهم جميعا يحلمون دائما ويريدون تحقيق أحلامهم, ورغم أنني عجوز جدا, إلا أنني أحلم كأنني طفل.

لم يكن الأطفال يفهمون كل ما يقول, ولكنهم كانوا يحسّون تجاهه بمحبة خاصة كأنه أحد أقاربهم, ورغم أن خطاباته كانت دائما للكبار. إلا أنهم كانوا يفرحون بها, وينتظرون اليوم الذي سيكبرون فيه لكي يصير لهم أصدقاء يراسلونهم في البلاد البعيدة, بشرط أن يظل العم (مسعود) ساعيا للبريد لكي يسلمها لهم بنفسه.

... فجأة... غاب العم (مسعود) لم يعد يأتي للبلدة ولم يعد أحد يسمع أنغامه أو يراه قادما وسط أسراب الطيور, طالت الغيبة, وأراد أهالي البلدة أن يرسلوا إليه خطابات تسأل عن أحواله ولكنهم لم يكونوا يعرفون له عنوانا, فالرجل الذي يعرف كل بيوت البلدة لم يكن أحد يعرف مكان بيته, وذات يوم جاء شاب قوي يحمل حقيبة تشبه حقيبة العم (مسعود), قال إنه ساعي البريد الجديد وراح يسلم الخطابات لأهالي البلدة. سألوه جميعا: لماذا توقف العم (مسعود) عن المجيء, هل هو مريض؟ هل ترك مهنته واستبدلها بمهنة أخرى؟ هل عاد أبناؤه فقرر البقاء معهم في البيت؟ إلا أن ساعي البريد الشاب قال لهم بحزن: لقد مات العم (مسعود) كما يموت كل الناس, ولكنه بعث لكم معي برسالة, لم يكتبها, بل قالها لي وأوصاني أن أنقلها لكم, إنه يقول لكم إنه كان أسعد رجل في العالم, لأنه كان يمتلك أسرة أكبر من أي أسرة, أفرادها كثيرون رغم اختلاف ألوانهم وأعمارهم, وأن بيته كان أكبر بيت في الدنيا, لأن ساعي البريد هو الرجل الوحيد الذي يدخل كل البيوت دون أن يخاف منه أحد.

 

 


 

طارق إمام