رحلة إلى عالم أزرق
رحلة إلى عالم أزرق
كانت السفينة تهتز فوق سطح الماء واللون الأزرق يمتد حتى نهاية الأفق, ووقف أحمد مستندا إلى الحاجز المعدني وهو يراقب عشرات الباحثين الذين يعملون على ظهرها, كانوا يلقون بكاميرا صغيرة مصنوعة خصيصا للغوص تحت الماء, ومجسات طويلة, ومناظير, بالإضافة إلى عشرات الغواصين الذين كانوا يتولون وضع هذه الآلات في أماكنها الصحيحة في قاع البحر, ظل أحمد مدهوشا وعندما رفع رأسه وجد الدكتور ذهني عالم البحار المشهور وهو واقف بجانبه, تساءل أحمد: - ما كل هذه الآلات, هل يستحق اكتشاف قاع البحر كل هذا الجهد؟ قال الدكتور ذهني مبتسما: - هل نسيت يا أحمد, أن البحار والمحيطات تمثل حوالي 72% من عالمنا, أي أنها تقارب الثلثين, إن عيشنا الطويل على الأرض المستقرة يجعلنا ننسى الطبيعة المائية لهذا الكوكب, لذلك لم نكن نعرف أي شيء عن هذه البحار حتى وقت متأخر من منتصف القرن الماضي, إن علينا أن نتفادى هذا النقص يا أحمد, لأن مستقبل الإنسان يكمن في هذه البحار, ويكفي أن أقول لك إن البحار يمكن أن تحل مشكلة الغذاء بالنسبة للأجيال القادمة. البحر ليس أسماكا فقط قال أحمد: هل تقصد صيد السمك, بالطبع لا نستطيع الحياة على صيد السمك فقط؟ قال الدكتور ذهني: أوافقك على ذلك, ولكن عليك أن تعرف أن العلماء قد تمكنوا من حصر حوالي أربعين ألف نوع من الحياة في بحار العالم, منها سبعة عشر ألف نوع من السمك, ومع الأسف, فإن استخدام الإنسان للأسماك في الطعام يقتصر على 40 نوعا فقط, وطعم الحيوانات المائية مختلف رغم أنها تعيش في بيئة واحدة, ولكنها تتأثر بدرجات الحرارة المختلفة, فهناك أسماك الرنجة والقد والسردين, وكلها أسماك مختلفة الطعم, واذا أضفنا الى ذلك القشريات مثل الجمبري أو الروبيان كما يطلق عليه أهل الخليج أو القريدس كما يسمّونه في الشام, والهلاميات أي الغذاء الذي يوجد في المحار, وكل هذه أنواع من البروتينات الكاملة والخفيفة على المعدة والصحة في الوقت نفسه. أما الأغذية النباتية, فإن البحار حافلة بأغذية رائعة من أنواع الطحالب المختلفة, وقد اكتشف العلماء أن هناك طحالب تحتوي على مادة اسمها البلاكتون تتغذى عليها جميع الكائنات التي تعيش في البحر ويمكن أن نطلق عليها أساس الحياة, وقد أكدت الأبحاث أن البلاكتون يمكن أن يكون أساس الحياة بالنسبة للإنسان أيضا, وعندما ننجح في زراعته في مزارع البحر سوف يكون هذا يوم انتصار للبشرية لأنها قد ضمنت بذلك غذاء يمكن أن يدوم إلى الأبد. وربما لا تعرف الفوائد الجمة التي تقوم بها البحار في خدمة الطب, فقد دلت الأبحاث الحديثة أن هناك العديد من الأمصال التي تقي من الأمراض يمكن استخراجها من المخلوقات البحرية, ففي سمكة الجونيولاكس وهي من أسماك القرش اكتشف حوالي ثلاثة أنواع من المضادات الحيوية, وهناك مواد يمكن أن تقضي على مرض السل الذي يفشل البنسلين في علاجه, كما أن بعض الرخويات تحتوي على علاج لمرض السرطان, وأخرى تساعد في تخفيض ضغط الدم, وهكذا ترى أن البحر فيه الغذاء والدواء بالنسبة للإنسان. قاع البحار صفر أحمد في دهشة وهو يقول: - كل هذه الفوائد في البحر, لماذا تأخرنا إذن في اكتشافه حتى الآن؟ قال الدكتور ذهني: - اكتشاف المياه العميقة لم يكن شيئا سهلا, لقد كان الأمر يتطلب نوعا من التقدم العلمي حتى يمكن اختراع العديد من الآلات التي يمكن أن تحمي الإنسان في هذه المياه العميقة, لقد كانت هناك أساطير حول القارة المفقودة (أتلانتس) التي غرقت في المحيط وظل الأمر مجرد أساطير لا يمكن التحقق من صحتها, وكان الاعتقاد أن السواحل تنحدر إلى أعماق مظلمة, ولكن العالم البريطاني الشهير تشارلز دارون, لابد وأنك سمعت عنه يا أحمد, كانت له دراسات أيضا حول البحار, فقد قام بدراسة الشعب المرجانية وقدم نظرية تقول إن هذه الشعب لا تتكون إلا على قمم جبلية, ولم تثبت نظريته الا بعد ذلك بسنوات حين اكتشف العلماء وجود سلسلة من الجبال الضخمة في أعماق البحار, البعض منها أعلى من الجبال الموجودة على اليابسة, وكلها حافلة بالمعادن التي تحتاج إلى استخراجها, فالأعماق البحرية تبدو على هيئة أحواض متتالية, تتناثر فيها قمم الجبال والقمم البركانية والجزر المرجانية. وفيها تتجمع بلايين الأطنان من الرواسب الناتجة عن عوامل النحت الصخري, أو بلايين من هياكل الحيوانات المائية, وفوق مسطحات قاع البحر تكونت الصخور الجيرية التي نعرفها حاليا وكذلك مناجم الفحم وآبار البترول, وهكذا نرى أن البحر هو أكبر مخزن للمعادن ولمصادر الطاقة أيضا. الشراع وقوة الريح قال أحمد: ولكن هذا يستلزم القيام بجهود كبيرة, والبحار كانت دائما عائقا بين الناس, إنها تفصل بين الدول والقارات؟ قال الدكتور ذهني: - العكس هو الصحيح يا أحمد, لقد كانت البحار دائما صلة وصل بين بلاد العالم, وقد اكتشف الناس أن السفر بواسطتها أسهل من البر, حيث لا توجد عوائق ضخمة مثل الجبال والوديان العميقة, كما أنه أسرع عندما نستغل سرعة الريح, لقد ساهمت البحار وسرعة الريح في اكتشاف العالم بعضه البعض, ويقال إن الإنسان عرف كيف يستخدم الشراع منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة, وقد رسمه المصريون على جدران معابدهم, وقد نقلوا على طول نهر النيل مسلاتهم الضخمة التي تزن آلاف الأطنان دون أن يحتاجوا لضربة مجداف واحد, وذلك بفضل اختراع الشراع, وقد استعار الفينيقيون هذا الاختراع وطوّروه بحيث جابوا به البحار الواسعة, ويقال إنهم أول من سافــر عبر المحيط الأطلنطي واكتشفوا شواطئ أمريكا قبل أن يفعل (كولومبس) ذلك بآلاف السنين. لقد درس الإنسان قوة الرياح, وعرف مواقع النجوم حتى يستدل بها على مكانه في عرض البحر, وعرف العلاقة بين تغيرات البحار وحال الطقس, وأين توجد البلاد الباردة وأين الدافئة, إن للبحر تاريخا طويلا يا أحمد, فقد شهد المعارك الحربية الكبرى, وشهد الاكتشافات العظيمة, والأبطال والقراصنة واللصوص والرحالة الكبار وسوف أحدثك عن كل هذه الأشياء فيما بعد. نظر أحمد إلى الأمام, كانت زرقة البحر تمتد أمامه بلا نهاية وهي تتصل بالسماء عند حافة الأفق, وأدرك أنه لا يعرف عن هذا العالم الواسع إلا أقل القليل.
|