قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

ابن زهر
سر الوصية المدهشة

السؤال المثير للحيرة, لم يكف أن يطرح نفسه على الصغير (عبدالملك) إنه من عائلة يعمل كل أفرادها تقريبا بالطب, وتبدو الأسرة كلها مدرسة تُعلم بعضها البعض أصول علم الطب.

قال الابن لأبيه (أبي العلا زهر بن محمد بن مروان):

- هل يجب أن أصبح طبيبا مثلكم.. عندما أكبر؟

وضحك الأب, وهو يفهم المغزى الخفي وراء السؤال, خاصة حين استخدم الطفل تعبير (مثلكم), لذا قال:

- لك الحق في اختيار المهنة التي تحبها, لكن لماذا لا تتعلم أصولها؟

ربما تحبها.

حدث ذلك في صباح أحد الأيام من عام 1082 ميلادية, أي في عام 474 هجرية, وفي الأندلس, حيث تمكن العرب من فتح إسبانيا, ونجحوا في أن ينقلوا التقدم إلى البلاد, خاصة في علوم الطب, والفيزياء.

وقرر (عبدالملك) ألا يصبح طبيبا, ليس لأنه لا يحب الطب, بل لأنه يريد أن يكون شخصا مختلفا. وبدأ يتوغل في العلوم, والفلسفة, والأدب واستطاع الطفل الصغير أن يستوعب الكثير من المعارف التي يمكن لعقله أن يستوعبها في هذا العمر.

واكتشف أن الكيمياء ليست علما, بقدر ما هي نوع من الألعاب الطريفة, وقال لأخيه الأكبر:

- عندما أضع محلولا ما فوق محلول آخر, يتكون ناتج جديد, مدهش متعدد الشكل والألوان.

قال أخوه:

- هل تعرف أن الكيمياء هي أساس علم الصيدلة, والأدوية؟

ويوما وراء يوم, كان كل شغفه اكتشاف الجديد من المكونات الكيميائية ولم يصل إلى سن السادسة عشرة إلا واستوعب طب الأعشاب, والأدوية الكيماوية وأثر كل منها في الأمراض التي تصيب الإنسان.

وذات يوم, دخل (عبدالملك) على أبيه, بعد أن أدى صلاة المغرب وقال له:

- أبي, أحببت علم الصيدلة, واستوعبت الكثير منه, دلني على الطريق الأفضل.

أحس الأب بسعادة غامرة, فأمسك بيد ابنه, وقاده إلى حيث توجد أكبر مكتبة في علم الصيدلة, والطب, وقال:

- استفد من هذا الكنز, هذه الكتب بها خبرة الأساتذة الذين سبقونا.

وتعلم الشاب الصغير درساً جديداً, ففي علم الصيدلة, يجب على الإنسان أن يكون متأكداً تماما من أنه يوصي بالدواء المعالج للمريض, لأن أي خطأ قد يعرض حياة الناس لخطر حقيقي.

وراح يقرأ الكثير.

واكتشف أن الطب من دون صيدلة غير مفيد.

وبدأ يعد نفسه ليكون طبيباً, وصيدلياً متفوقاً.

وأعطاه هذا التفوق مكانة عالية, واشتهر عنه حُسن معرفته بالأدوية الصحيحة لعلاج الأمراض السهلة والمستعصية, وسمع الملك (أبي محمد عبدالمؤمن) بمهاراته, فاستدعاه, وقال له:

- من اليوم أنت الطبيب الخاص بي.

وتزوج الشاب من امرأة من أسرته, أحبت الطب مثله, وأنجبت له ثلاثة أبناء, عملوا جميعا بالطب. وساعدوه في أبحاثه.

واكتشف (ابن زهر) أن أحسن علاج للحمى في الجسم هو غمس الشخص المصاب بالسخونة في الماء البارد.

وانتشرت كتبه بين الناس, منها كتابه (التيسير في المداواة والتدبير) و(الكليات في الطب) عام 561 هجرية, و(تذكرة في أمر الدواء المسهل).

ذات يوم سأله الملك:

- أخبرني يا ابن زهر عن سبب تفوقك؟

رد العالم, وكان السن قد تقدمت به:

- العلماء الذين سبقوني, كانوا يعرفون معلومات كثيرة عن معارف عديدة يمزجون بين الفلسفة (علم الكلام) والطب.

سكت قليلا ثم قال:

- أما أنا, فقد وهبت حياتي كلها للطب, حتى الصيدلة قررت أن أهجرها من أجل الطب وحده.

وبهذه العبارة, بدأ عصر التخصص العلمي, أي أن على العالم أن يتعرف على شتى المعارف المتعلقة بالعلم الذي يتخصص به, ويمكنه أن يعرف كل شيء في مجال دقيق من هذا العلم.

واستطاع (ابن زهر) أن يفتح أبواب العلوم المتخصصة أمام تلاميذه من العلماء, خاصة العالم الشهير (ابن رشد).

وحين رحل العالم (ابن زهر) إلى العالم الآخر, عام 1162 ميلادية (557 هجرية) كان قد ترك كتبا مهمة, ووصايا علمية يتبعها العلماء والأطباء حتى الآن, ومنها أهميـة اتبــاع المنهج العلمـــي في مختلف الميادين.

لكن, أهم ما تركه العالم, هو أن أبناءه الثلاثة, راحوا يكملون رسالته فقامــــوا بنسخ كتبه, ونقلوهـــا إلى الأجيال المتلاحقة التي جاءت من بعده. وكانت هذه أجمل وصية.

 


 

محمود قاسم