كوب عجوز

كوب عجوز

رسـوم: حلمي التوني

كان هناك كوب زجاجي عاش طويلا دون أن ينكسر, بقي وحده من طاقم أكواب قديم لها نفس الشكل, ومرت سنوات تبدلت فيها أطقم الأكواب, وتغيرت من كل شكل وحجم وكانت جميعها مهما طال بها الزمن أو قصر تتحطم وتختفي, أما هو, فلقد أطلقت عليه أدوات المطبخ لقب (شيخ الأكواب) هكذا كانوا يقدمونه لكل وافد جديد من الأكواب أو الصحون. ولعلكم لا تعرفون شيئا عن الحفلات التي تقيمها الأدوات المصطفة على الأرفف بعدما يخلو لها المطبخ, وتكون وحدها حيث يتسع لديها الوقت للصخب واللهو وتبادل الأحاديث المرحة والأغاني, وتنطلق من كل صوب الضحكات التي لا نسمعها وإن كان يمكننا أن نلحظ لمعانها في الأواني المغسولة اللامعة, وفي وسط ذلك الصخب, كان هناك دائما من يقول: (هيه يا شيخ الأكواب.. حدثنا كيف عشت كل هذه الأعوام دون أن تنكسر) وكان (شيخ الأكواب) الذي يعرف كيف يجذب انتباه المستمعين يفكر باحثاً عن أفضل إجابة قبل أن يقول كلماته المحفوظة التي قالها من قبل عشرات المرات: (أنا نفسي لا أعرف, لكن ربما يكون شيء من الحرص وشيء من الحظ قد حفظاني من الانكسار), ولقد كان صادقا فيما يقول. هكذا كانت تمضي به الحياة, حينما يطلب للعمل فإنه يعمل, حينما يعيدونه إلى الرف يستقر هادئاً حتى جاء ذلك اليوم الذي قالت فيه ربة البيت لزوجها: (كم هو أصيل ذلك الكوب! لقد عاش بيننا من قبل مولد أكبر أبنائنا.. هل تتذكر? لقد شهد أجمل ذكرياتنا ولسوف أحزن كثيراً لو أنه انكسر بعد ذلك العمر الطويل). هزّ زوجها الذي كان مستغرقاً في قراءة الجريدة رأسه مؤكداً على كلامها فواصلت: (ما رأيك? لقد قررت أن أحفظه في الخزانة بعيداً عن الأيدي لكي يظل تذكاراً لهذه الأيام). أزاح زوجها الجريدة بعيدا عن وجهه قائلا: (كما تشائين). أما (شيخ الأكواب) الذي كان يسمع كلامهما فقد فرح كثيرا إذ فهم أن في حفظه بالخزانة تكريماً له هناك بين الأواني الثمينة, إذ سوف يحظى بشرف الجلوس إلى طاقم الشاي الصيني الفخم الذي لا يخرج من الخزانة إلا للضيوف, وسيمكنه الآن أن يتأمل طويلا وعن قرب فن زخارفه الجميلة وألوانه الهادئة, وربما يظفر بصداقة إناء السكر المغرور.

انتهت ربة البيت من تجهيزه وحملته إلى الخزانة وأغلقتها عليه, كانت الخزانة من الداخل معتمة وهواؤها خانقا وحينما تلفت حوله وجد الأشياء جميعا نائمة نوماً عميقاً, فقد اعتادت النوم الطويل, وصُدم الكوب للحالة التي رآهم عليها حتى أنه لم يحاول إيقاظ إناء السكر النائم أمامه ليتحدث إليه, ولم يتأمل بإعجاب لمعانه وزخارفه, فقد بدت له كل زخارف طاقم الشاي الصيني جميلة متكررة وتبعث على الملل. وراح الوقت يمر بطيئا و(شيخ الأكواب) يتحرق شوقاً لأن يرى أيادي الصغار والكبار وهي تختطفه لتملأه وترشف منه, ويدي ربة البيت تغسلانه وتجففانه وتريحانه على الرف فوق حاملة الأكواب بيته الحبيب حيث الهواء والضوء والمياه. لم ينم (شيخ الأكواب) في هذه الليلة, وحينما حلّ الصباح ودبّت الحركة في البيت كان قد اتخذ قراره وجلس ينتظر, وما إن فتحت ربة البيت الخزانة لتتناول شيئا منها حتى رجاها أن تعيده إلى مكانه فوق حاملة الأكواب قائلا: (أن أعمل وأرى الدنيا حتى وإن تعرضت لأخطارها أفضل بكثير من ألا أعمل, وأن أظل محتبسا حتى لا أنكسر). فكرت ربة البيت قليلا ثم تنهدت وقالت: (ماذا أفعل? إننا حينما نحب شخصا أو شيئا, فإننا لا نرضى له بالتعاسة مهما بلغ خوفنا عليه). وهكذا أعادته على الفور إلى حاملة الأكواب وعادت حياته لما كانت عليه وعاد يردد في حفلات الأواني (إنه شيء من الحرص وشيء من الحذر).

 


 

آمال الميرغني