كـوك... البحـار الذي رسـم خـريـطة العالم

كـوك... البحـار الذي رسـم خـريـطة العالم

كان المشهد يبدو مخيفا, حتى بالنسبة لأكثر البحارة خبرة, فالسفينة تسبح وسط ضباب كثيف, وما إن ينكشف الضباب قليلا حتى تلمح عيونهم قمما متتابعة من الجبال الثلجية, لا بشر, لا مدن, فقط هذه الوحوش الثلجية النائمة, وظل البحارة صامتين حتى قال لهم القبطان أخيرا:

- لقد شاهدنا ما يكفي من أشد السواحل رعبا في العالم.

كان هذا في يوم 6 فبراير عام 1775 عندما قرر القبطان جيمس كوك أن يستدير عائدا من ذلك الجزء المهجور من حافة المحيط المتجمد الجنوبي, كان قد استطاع أن يحل اللغز الذي ظل مجهولا على مدى أكثر من ألفي عام, وأن يكتشف وجود القارة الجنوبية التي تحدّث الإغريق عن وجودها, لم يصل إليها أحد من الأوربيين قبله, ولكن فلاسفة الإغريق القدامى كانوا يعتقدون أنه لا بد من وجود قارة في النصف الجنوبي من الأرض حتى تتوازن مع نصفها الشمالي, وكان كوك قد وصل إلى نهاية العالم ووجد أن الحقيقة أغرب من أي شيء يمكن تصوره.

كانت هناك الكثير من الأراضي التي لم يتصور كوك وجودها جنوب خط الاستواء, وقد قضى سنوات وهو يصور خرائط هذه الأراضي وعلى رأسها قارة أستراليا ونيوزيلندا والعديد من الجزر التي نعرفها اليوم, وحتى بعد ذلك وجد كوك أراضي أخرى تغطيها الثلوج, وبذلك وصل إلى حدود للعالم لم يصل إليها أحد من قبله.

رحالة لا يهدأ

قام كوك بثلاث رحلات استكشافية على مدى 11 عاما, اكتشف خلالها مئات الجزر, وأقام علاقات مع سكانها من القبائل الذين لم يكونوا معروفين, ورسم خرائط ظلت دقيقة ومعتمدا عليها لعدة قرون, كما أن جهوده العلمية قد ساهمت في شفاء البحارة من مرض الأسقربوط, كما أدخل تحسينات كثيرة على أدوات الملاحة البحرية, فمن هو هذا البحار المستكشف?

كان كوك هو الابن الثاني لعامل اسكتلندي كثير الأولاد, ولد في 26 أكتوبر عام 1728 في إحدى بلدات يوركشاير, وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره بدأ يبحث عن حياة أفضل من التي يعيشها مع والديه, وفي ذات يوم, بينما كان يعمل في محل لبيع الأدوات البحرية, جاء أحد الزبائن ودفع له ثمن البضاعة بعملة ذهبية مكتوب عليها اسم شركة البحرية التي تتاجر في أعالي البحار, مرسوم عليها أفق ممتد وسفينة لا تكف عن الإبحار, ظل الفتى كوك يتأملها طويلا, وأدرك لحظتها ماذا يريد أن يفعل في مستقبله, إنه يريد أن يصل إلى هذا الأفق وأن يركب هذه السفنية, وبدأ من هذه اللحظة عشقه للإبحار والرحيل, وذهب للتطوع للعمل في أسطول البحرية الملكية.

كانت الحرب مشتعلة بين الإنجليز والفرنسيين للاستيلاء على مقاطعة (كيبيك) في كندا, وشارك الفتى في هذه الحرب التي انتصر فيها الإنجليز, وقام هو بعمل أول خريطة لسواحل هذه الأرض الجديدة, كما أجرى أبحاثا عن كسوف الشمس الأمر الذي لفت إليه أنظار البحرية الملكية وأخذ يترقى في عمله البحري.

وجاءت فرصته الأولى في الاكتشاف عام 1769 عندما كان علماء الفلك في إنجلترا يريدون مراقبة كسوف الشمس وراء كوكب الزهرة, واختاروا جزيرة تاهيتي مكانا مناسبا للحصول على افضل صورة لهذا الكسوف, وأعدت إنجلترا بعثة علمية للسفر إلى هذه الجزيرة واختير جيمس كوك حتى يرأس هذه البعثة.

لم يتوقف رحيل كوك منذ ذلك الحين, فقد أوصل علماء الفلك إلى تاهيتي ثم واصل الرحيل جنوبا حتى وصل إلى نيوزيلندا ودار حولها ليثبت أنها مجرد جزيرة وليست القارة الجنوبية المجهولة كما كان يعتقد البعض, وعندما أراد التوغل جنوبا واجهته جبال من الجليد, فاعتقد أن هذه هي نهاية العالم, عاد مرة أخرى إلى تاهيتي, ليلتقط أنفاسه لمدة شهر ثم يعاود الرحيل من جديد.

اكتشاف أستراليا

استطاع كوك في هذه المرة أن يجد ممرا بين جبال الجليد أطلق عليه ممر الملكة, قاده ذلك إلى خليج واسع أطلق عليه خليج النباتات لأن العلماء وجدوا فيه العديد من النباتات الغريبة التي لم يكونوا يعرفون بوجودها من قبل, وكان هذا الخليج هو الطريق لاكتشاف القارة التي ظلت دوما مجهولة: استراليا, وأصيب الكثير من بحارته بمرض الأسقربوط, وهو مرض يصيب البحارة عندما يقضون وقتا طويلا في البحر دون أن يتناولوا أي نوع من الغذاء الطازج مثل الخضراوات والفاكهة. ولكن هذا لم يمنعهم من الحصول على أول غنيمة من هذا العالم الجديد حين هبط البحارة إلى أحد الشواطئ واصطادوا حيوانا يتقافز على قدمين كان اسمه (كانجارو).

بدأت الرحلة الثانية للقبطان كوك بعد ذلك بخمسة شهور, حين قاد سفينتين توغلتا أكثر في الجنوب, ودخلتا وســط جبـال الثلـج في منطقة القطب الجنوبي المتجمد, وكان كوك قد استطاع أن يأخذ معه كمية كبيرة من الخضراوات الطازجة, وخاصة الكرنب الذي أثبت أنه علاج جيد للأسقربوط, وظل كــوك يطــوف حول هذه الشواطئ الجليدية ولكنــه لــم يستطــع أن يصل إلى نهايتها, لقد بدا العالم كله متجمدا وباردا وخاليا من البشر لذلك اضطر للعودة.

وكان هدف الرحلة الثالثة إيجاد طريق مختصر يربط المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادئ من دون المرور حول رأس الرجاء الصالح أي عن طريق الجنوب, وفي الطريق إلى ذلك اكتشف جزيرة (هاواي) وكان أول أوربي يزور جزر السندوتش, وارتاح قليلا ثم واصل طريقه نحو القطب الجنوبي من أجل أن يبحث عن هذا الممر, دون جدوى, وقرر أن يعود من هذه الشواطئ ليقضي الشتاء في هاواي.

موت مفاجئ

وفي البداية كان استقباله حارا وكانت الإقامة طيبة وعامله الأهالي كأنه إله أبيض قادم من المجهول, ولكن عندما قرر كوك أن يعود إلى بلاده, وقبل أربعة أيام فقط من رحيله اكتشف سرقة قارب صغير من إحدى السفن, واستشاط كوك غضبا وأخذ بعضا من البحارة المسلحين وأخذوا يطوفون الشاطئ من أجل إلقاء القبض على قائد القبيلة التي كانوا يشكون أنها هي التي قامت بسرقة القارب, وثارت معركة بينهم وبين رجال القبيلة الذين كانوا يدافعون عن قائدهم, وطعن كوك أكثر من طعنة أودت به إلى الموت.

وقد استغرقت أخبار موت كوك عاما كاملا حتى تصل إلى إنجلترا, وقد استغرق الأمر حوالي 200 عام من النقاش حول الأخطاء التي ارتكبها كوك في هذه الرحلة الأخيرة, ولكن الجميع اتفقوا على أنه كان واحدا من أعظم البحارة, وان الخرائط التي رسمها ظلت صامدة لمدة 200 عام ولم تتغير إلا بعد ظهور الأقمار الصناعية, كما أن علاجه لمرض الأسقربوط جعل البحارة الإنجليز ينتصرون في المعارك البحرية التي دخلوها. ورغم أن حلمه بأن يجد ذلك الممر الذي يربط بين جنوب الأرض وشمالها عبر المحيط المتجمد لم يتحقق, إلا أن نظريته كانت صحيحة واكتُشف هذا الممر بعد موته بحوالي 250 عاما.

 


 

محمد سيف