المنزل الصغير

المنزل الصغير

فوق تل في الريف بنى رجل منزلا صغيرا فكان جميلا وتحيط به الحقول والأشجار من كل جانب, وعندما شاهدت ابنته المنزل قالت له: إنه منزل جميل يا أبي, فقال لها: لقد بنيت هذا المنزل لأحفادي وأحفاد أحفادي من بعدي فأرجوك ألا تبيعي هذا المنزل مهما كان الثمن المعروض عليك. وعندما سمع المنزل الصغير هذا الحديث سرّ سرورا كبيرا وبعد عدة سنوات غادرت ابنة الرجل المنزل ولم تعد إليه وظل المنزل الصغير وحيدا فوق التل ولكنه برغم وحدته كان سعيدا يقول لنفسه: أنا لا أشعر بالوحدة في الريف فأنا أشاهد شروق الشمس صباحا وغروبها مساء, وفي كثير من الليالي أشاهد القمر منذ أن يكون هلالا ثم يكبر ليصبح بدرا, وأتأمل النجوم وهي تتألق في صفحة السماء, وأشاهد أضواء المدينة تسطع من على بعد. وكان المنزل الصغير لديه فضول كبير عن المدينة ويسأل نفسه: كيف تكون الحياة في المدينة? وكان الوقت يمر سريعا على المنزل وهو يشاهد شكل الريف يتغير من حوله تبعا لتغير الفصول. في الربيع يصبح النهار أكثر طولا والجو أكثر دفئا وتبدأ الحشائش الصفراء في الاخضرار ويشاهد براعم الأشجار وهي تنمو وأشجار التفاح وهي تزهر والأطفال الصغار وهم يجرون ويمرحون أعلى وأسفل التل.

وكان المنزل الصغير يشاهد في نهار الصيف الطويل الأشجار وهي مكسوّة بالأوراق الخضراء وكذلك زهور الاقحوان الصفراء وهي تغطي التل وثمار التفاح الناضجة الحمراء وكان دائما الأطفال يسبحون في البحيرة أسفل التل.

أما في الخريف فيبدأ النهار في القصر, ويصبح الليل أكثر برودة فكان المنزل الصغير يشاهد بدء اصفرار أوراق الشجر وبدء جمع محصول التفاح وكان الأطفال في طريقهم إلى المدرسة.

وفي الشتاء عندما يطول الليل كان المنزل الصغير يراقب الجليد وهو يتساقط ويكسو التل والريف كله والأطفال وهم يرتدون المعاطف الثقيلة والقفازات وأغطية الرأس الصوفية. ومرت السنوات على المنزل الصغير وهو وحيد يشاهد أشجار التفاح الصغيرة وهي تثمر, أما الأشجار الكبيرة فيقوم أصحابها بقطعها لأنها أصبحت عجوزا لا تثمر, أما الأطفال الذين كبروا فقد ذهبوا إلى المدينة بحثا عن العمل وهجروا الريف وكان ينتاب المنزل إحساس قوي بأن أضواء المدينة أصبحت أكثر اقترابا.

وفي أحد الأيام فوجئ المنزل الصغير بوجود الكثير من العربات التي تجرها الخيول تسير في الطريق أسفل التل وبعدها بفترة قصيرة رأى المنزل العديد من الرجال فوق التل يرسمون مسارا لطريق يشق التل وسط أزهار الأقحوان الصفراء.

وبعد عدة أيام شاهد سيارات النقل الكبيرة ألقت على الطريق أحجاراً صغيرة بيضاء وكذلك ألقت بالرجال, وبعدها تم شق الطريق إلى التل وأصبح يشاهد السيارات وهي تأتي وتعود إلى المدينة وكذلك محطات تمويل السيارات بالبترول وهي تقام على جانبي الطريق وكذلك الاستراحات كما لاحظ أن العديد من المنازل بدأت تقام من حوله وبدأ يشعر أن كل شيء من حوله يتحرك بشكل أسرع. وبعد فترة بدأ إنشاء طرق كثيرة في المنطقة الريفية والكثير من المنازل والمدارس والمحلات ومآرب للسيارات وأصبحت المنطقة من حوله في زحام مستمر, ولأن المنزل كان غير قابل للبيع فقد استمر في مكانه وهو يراقب ما يحدث متأملا محدثا نفسه: يبدو أنني أصبحت أعيش في المدينة!!

وشعر بافتقاده الحقول والزهور وأشجار التفاح وهي تتمايل في ضوء القمر واشتاق لصوت الطيور ورائحة هواء الصباح النقي, ولاحظ المنزل أن الكل يبدو مشغولا في عجلة من أمره وأصبح يشعر بأن الهواء من حوله أصبح مشبّعاً بالغبار والدخان, وكذلك الضوضاء المزعجة, حتى الطيور هاجرت المكان فقال لنفسه: الآن لن أشعر بقدوم الربيع ولا الخريف ولا الصيف ولا الشتاء فكل الفصول تبدو متشابهة.

وفي أحد الأيام شعر المنزل الصغير بحركة كثيرة من حوله وأصوات آلات تحفير في الأرض ورأى بناية ارتفاعها 25 طابقا عن يمينه وعن يساره بناية مشابهة لها, وأصبحت الشمس لا ترى إلا لفترة قصيرة في فترة الظهيرة, وكذلك القمر والنجوم أصبحت لا ترى في المساء بسبب أضواء المدينة الساطعة طوال الليل, وقال لنفسه: الحياة في المدينة غير ممتعة, أين الريف الذي كنت أعيش فيه? أين الزهور? وأين أشجار التفاح وهي تتراقص في ضوء القمر? وأصابه الحزن وإحساسه بالوحدة وبمرور الوقت بدأ طلاؤه في الاتساخ والجدران أصابها التشقق وتكسر زجاج نوافذه وبعض ألواح سقفه.

وفي أحد أيام الربيع المشمسة حضرت إلى المنزل الصغير حفيدة الرجل الذي بنى المنزل الصغير ومعها زوجها وقالت: هذا هو المنزل الصغير الذي عاشت فيه جداتي كلهن وهن صغيرات وكان فوق تل في المنطقة الريفية وكانت الزهور من حوله والأشجار كما قالت لي أمي وجدتي لذا لابد أن نذهب إلى أحد المهندسين لمعرفة هل يمكن نقل المنزل الصغير لمكان آخر أم لا?

وبعد عدة أيام, عادت الحفيدة ومعها سيارة كبيرة وأحد الروافع الضخمة وقاموا برفع المنزل الصغير فوق السيارة وشعر المنزل الصغير وقتها بالخوف وسأل نفسه: ماذا سيفعلون بي? وفجأة شعر بأن رائحة الهواء النقي بدأت تعود ونظر حوله فرأى مرة أخرى الحشائش الخضراء والأشجار العالية وأصوات الطيور تغرد مرة أخرى, فانتابه شعور غامر بالفرحة والسعادة, وظلت السيارة تسير وهو فوقها وسط الحقول حتى توقفت أمام تل وهنا قالت الحفيدة لزوجها: هنا نضع المنزل الصغير, ببزوغ الشمس للمرة الأولى بعد فترة طويلة قال لنفسه: سوف أشاهد الشمس والقمر والنجوم من حولي من جديد وسوف أتأمل تعاقب الفصول, الربيع والصيف والخريف والشتاء, وأستمتع بالهدوء والسكينة وأشتم رائحة الريف والأرض وهي تنبت الخير.

 


 

فايزة رشاد أحمد