دم الشهيد

دم الشهيد

قصة من الصين

هل سبق لكم أن رأيتم مدينة بكين الرائعة, عاصمة بلاد الصين? لا شك, إذن, أنكم رأيتم الجرس العملاق, الذي ينتصب في إحدى ساحاتها الرئيسة, ووقفتم, وقد عقدت ألسنتكم الدهشة, من فرط الإعجاب بهذه التحفة الفنية الرائعة. فمن هو مبدعها يا ترى?

عبثا تبحثون في المخطوطات والكتب القديمة عن اسم الفنان الذي تمكن من صبّ هذا الجرس العملاق. وعبثا تبحثون في المراجع القديمة والحديثة عن السر الكامن وراء هذا الصوت الحزين, الذي يطلقه رنين هذا الجرس, لكأنه نواح ثكلى!

صحيح أن الكتب لا تأتي على ذكر ذلك, لكن ذاكرة الناس أصدق أنباء من الكتب, فهي تختزن اسم صاحب هذا الجرس, وتميط اللثام عن السر الدفين, الكامن وراء نُواحه.

وإليكم القصة:

منذ قرون عديدة أمر الإمبراطور الصيني ببناء مدينة جديدة, وقال لرعيته:

لسوف أطلق عليها اسم بكين, ولتكنْ أكبر مدينة, وأروع مدينة في قارة آسيا.

لكن (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن).

فقد بُنيت مدينة بكين مرتين, وفي كل مرة كان الأعداء يدمرونها, وكما أسراب الجراد كانوا يجتاحون الأرض الصينية, ويحولونها من جنات, وارفة الظلال, إلى أرض يباب, ويسوقون الرجال والنساء إلى سوق النخاسة, حيث يباعون, ويتحولون إلى عبيد وإماء أرقاء.

وحينذاك قصد الإمبراطور زاهدا حكيما, يعيش وحيدا في الجبال الشاهقة. دخل الإمبراطور المغارة, حيث يقطن الزاهد, وألقى عليه التحية, ثم سأله النصيحة:

- إنك إنسان مجرب وحكيم, فهلا أخبرتني ماذا أفعل لكي أتمكن من بناء عاصمة بلادي بكين, وكيف أحميها من العدو الغاصب.

فرد الحكيم:

دع أفضل عامل في الصين يصب لك جرسا, يكون الأكبر في العالم كله. لكي يبلغ رنينه حدود بلادك من الجهات الأربع - من الجنوب إلى الشمال, ومن الشرق إلى الغرب.

ما إن عاد الإمبراطور إلى قصره, حتى صفّق بيديه ثلاثا, وأوعز إلى مستشاريه وكبار رجال حاشيته:

- هاتوا لي أفضل عامل في البلاد.

انطلق أفراد الحاشية يبحثون ويسألون, وعادوا بعد شهر, ومعهم ضالة الإمبراطور.

ركع العامل تشين أمام عرش الإمبراطور, وأصغى إلى أوامره.

- صبّ لي أكبر جرس في المعمورة, وليبلغ رنينه حدود دولتي الشاسعة.

وللحال انكبَّ تشين على صنع الجرس. كان يعمل دون توقف, واصلا الليل بالنهار, تساعده ابنته سياولين, ذات الخمسة عشر ربيعا, التي انتقت له أشد أنواع الذهب صفرة, وأكثر أنواع الفضة بياضا, وأكثر أنواع الحديد سوادا.

ومرت الأيام والليالي والمعادن المصهورة تغلي في هذا الفرن العالي, لكن ما إن انتهى تشين من صبّ الجرس, حتى اكتشف الجميع وجود فالق عميق على سطحه.

ومن جديد انكبّ تشين على العمل بحماسة أكبر, وهمة أعلى, ومن جديد انبرت ابنته تؤازره في عمله, باذلة قصارى جهدها, لكن يبدو أن سوء الطالع كان لهما بالمرصاد, فها هو ذا الفالق العميق يزنر سطح الجرس من جديد فيشوهه ويشوه رنينه.

واستشاط الإمبراطور غيظا, ثم قال متوعدا:

- سوف أقطع رأسك ان فشلت مرة ثالثة.

مسكين تشين, لقد عاد إلى العمل, لكنه لم يعد ذلك العامل المتحمس والسعيد, ولم تعد يداه قويتين, مطواعتين, ولا يخفى على أحد أن العمل, غير المريح, لا يمكن أن تتمخض عنه نتائج طيبة.

وانتقلت عدوى الحزن والكآبة إلى سياولين, وقررت أن تساعد أباها في محنته,فانطلقت تحت جنح الظلام, الى مغارة الزاهد, في الجبال, وحدثته, وهي تذرف الدموع, عن محنة أبيها, ثم توسلت إليه الا يضن عليها بالنصح والإرشاد.

فكر الحكيم قليلا, ثم قال:

- صوت الجرس يجب أن ينجب النصر. ومثل هذا الجرس غير العادي, يجب أن يصب بطريقة غير عادية, وألا تقتصر مواده على الذهب والفضة والحديد, بل يجب أن يختلط بهذه المعادن دم الإنسان, الذي لا يضن بحياته في سبيل وطنه.

وفي الصباح كانت سياولين تقف, كعادتها, قرب الفرن, وهي تراقب المعدن المصهور يغلي ويفور في المرجل الضخم. وفجأة شعرت بقلبها ينقبض, فهي تعرف ما لا يعرف أبوها: من جديد سيظهر الفالق في سطح الجرس إن لم يضح أحد بنفسه, ومن جديد سوف تجتاح جيوش الأعداء أرض الوطن, ويساق أبناؤه عبيدا, وتغتصب نساؤه, ويقتل شيوخه وأطفاله, وتحرق مدنه وقراه.

كلا. هذا لن يحدث أبدا.

فوجئ الأب المسكين بابنته, وهي تلقي بنفسها في المرجل, ويختلط دمها الطاهر بالذهب والفضة والحديد.

ذرف تشين الكثير من الدموع حزنا على ابنته الوحيدة, التي يكن لها كل الحب والحنان.

حين انتهى تشين من صبّ الجرس تبين انه خال من أي عيب, وأنه آية في الكمال والجمال, ولا مثيل له في المعمورة, وقد وقف الجميع أمامه فاغري الأفواه, من فرط الدهشة والإعجاب.

حين قرع الجرس تردد في رنينه صوت عذب ملأ القلوب بهجة وطمأنينة.

ومرت الأيام, وبنيت مدينة بكين وبدأت تزدهر. لكن العدو لم يتخل عن مكائده.

وفي صباح أحد الأيام استيقظت الصين, من أقصاها إلى أقصاها, على صوت الجرس, الذي لم يقرعه أحد, إنه دم سياولين يقرع الجرس منذرا بغزو الأعداء. فهبّ الجميع للدفاع عن تراب وطنهم الأم, ملبين نداء سياولين.

لا يظنّن أحدكم أن هذه حكاية, كلا, ففي قلوب أبناء الشعب يتردد أبدا صوت الشهداء الذين قدموا حياتهم لكي تحيا أوطانهم.

إن صوت سياولين هو صوت المقاومة, صوت الشهيد, ليس في الصين وحدها, بل وفي فلسطين ولبنان والكويت, وكل بلد تعرض أهله للاجتياح, فهب أبناؤه يذودون عن حياضه.

 

 


 

هاشم حمادي