بيتنا الأرض

بيتنا الأرض

عندما اختفت العصافير

ارتفعت الضوضاء حتى لامست السحب. كانت أكبر ضوضاء من صنع البشر عرفتها الأرض. مئات الملايين من البشر يدقون الطبول ويضربون بالعصي علب الصفيح ويصرخون ويقرعون الصناديق الخشبية.. يصفقون بأكفهم ويصفرون ويزمرون. وكانوا وهم يفعلون ذلك يلوحون عاليا وعنيفاً بقمصانهم والمناديل وخرق القماش وأياديهم العارية. كما أن بنادق الصيد لم تكف عن إطلاق فرقعاتها.

صارت السماء جحيما من الضوضاء تفر منه العصافير فلا تجد أمامها إلا الضوضاء. تطير مفزوعة من مكان إلى مكان بحثا عن ملاذ هادئ فلا تجد أمامها إلا الضوضاء. وإن حاولت الهبوط لتحط على الأرض تفزعها تلويحات المناديل والخرق والأيادي والعصي.

لم يكن أمام العصافير إلا مواصلة الطيران. وكانت مواصلة الطيران ترهق قلوبها الصغيرة سريعة الضربات فتتوقف لتموت في الجو. ملايين العصافير راحت تتساقط على الحقول الشاسعة وفوق الأنهار والبحيرات والوديان, مطر رمادي غزير من أجساد العصافير الميتة كان يتساقط على أرض البلد الكبير وتتلقفه أيادي الجماهير المجنونة بالحماس.

كانت البطولة تُمنح لمن يقتل أكبر عدد من العصافير بزعم أنها تنافس البشر في التهام حبوب القمح في الحقول. ارتفعت شعارات الحرب ضد العصافير باعتبار العصافير معادية للبشر وتسلبهم غذاءهم.

وعندما غمرت الأرض أجساد العصافير وخلت السماء من رفرفة أجنحتها الصغيرة بدأت طبول الحرب تهدأ. ثم تصمت.

لم تعد في السماء أي عصافير ولا على الشجر أو في فجوات سقوف البيوت أو داخل شقوق الجبال أو جدران القلاع القديمة.

أعلنت مكبرات الصوت وأجهزة المذياع في كل مكان عن تحقق النصر الكاسح على العصافير وإنقاذ ملايين أطنان القمح من مناقيرها النهمة. تقلد أبطال هذه الحرب أوسمة الشجاعة ورفرفت رايات الاحتفال بالنصر الكبير في كل الميادين.

صدحت الموسيقى العسكرية وتعالت الأناشيد وسارت مواكب المنتصرين في ظل الرايات البرتقالية الخفاقة.

تقرر أن تستمر احتفــالات النصر أسبوعاً كاملاً في كل الأنحاء. لكن لم تكد تمضي ثلاثة أيام حتى سكتت الموسيقى وتوقفت الأناشيد وعم الكرب! فثمة سُحب سوداء أخذت تنعقد في سماء البلاد حتى أوشكت على حجب ضوء الشمس.

لم تكن هذه إلا ملايين ملايين الحشرات التي تكاثرت بشراهة في غيبة ملايين المناقير الصغيرة والتي كانت تتغذى عليها.

وراح الناس يحلمون بعودة العصافير.

 


 

محمد المخزنجي