محاكمة جاليليو... العلم ينتصر أخيراً

محاكمة جاليليو... العلم ينتصر أخيراً

المكان: روما

الزمان: عام 1633م

المناسبة: محاكمة المدعو جاليليو جاليلي بتهمة الخروج عن تعاليم الكنيسة.

يدخل جاليليو إلى قاعة المحكمة, إنه شيخ طاعن في السن يوشك أن يكمل السبعين من عمره وهو يمسك في يده المنظار الذي تعود أن يرى السماء من خلاله, وأمامه يجلس ثلاثة من القساوسة متحفزين, لقد اختارهم بابا روما, لمحاكمته, وكانت هذه هي الخطوة الأخيرة, فقد تعرض جاليليو قبلها للسجن والتعذيب, واستمرت معاناته ثلاثة أعوام كاملة قبل أن يحددوا موعدا لمحاكمته, والآن تعالوا معنا يا أصدقاء نتتبع سير هذه المحاكمة الغريبة لنعرف ما هي القضية بالضبط:

القاضي الأول: يا جاليليو, هل مازلت مصرا على أقوالك بأن الأرض ليست هي مركز الكون وأنها مجرد كوكب يدور حول الشمس؟

جاليليو: هذا ما لاحظته من خلال مراقبتي للسماء يا سيدي, وهذا المنظار الذي أحمله في يدي دليل على ذلك.

القاضي الثاني (غاضباً): دعك من المنظار, نحن لا نؤمن إلا بما جاء في الكتب القديمة, الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو يقول إن الأرض هي مركز الكون, والكتاب المقدس يؤكد هذا القول, كيف يمكن أن تقوم أنت بإنكاره؟

جاليليو: لأن الحقيقة ليست في الكتب القديمة يا سيدي, أرسطو كان يعيش في القرن الرابع قبل الميلاد, ولم يكن يملك هذا المنظار, ومن المؤكد أنه لم يراقب الفضاء على مدى الأشهر الطويلة التي قمت بها, لذلك فهو لا يعلم عن علم الفلك مثلما أعلم.

القاضي الثاني (وقد ازداد غضبه): أيها المغرور من تحسب نفسك؟

جاليليو: أنا رجل بسيط, ولدت في مدينة بيزا عام 1564, بجوار البرج المائل الشهير إن كنت تعرفه يا سيدي, كان أبي عازفاً موسيقياً يعمل عند دوق توسكاني حاكم المدينة, أحببت الموسيقى ولكن أبي كان يريد مني أن أتعلم الطب, ولكن ما إن دخلت جامعة بيزا وأنا في السابعة عشرة من عمري حتى وجدت نفسي أتسلل إلى محاضرات الرياضيات وعلم الفلك, كنت شغوفاً بهذين العلمين, وكنت أؤمن أن ظواهر الكون يمكن أن تفسر كلها بواسطة المعادلات الرياضية, وقد تأكدت من ذلك بالفعل حين راقبت أحد المصابيح المعلقة في السقف, ووجدت أنه يتحرك جيئا وذهابا في وقت منتظم يمكن حسابه رياضيا, وطبقت هذا الأمر على الإنسان فوجدت أن قلبه هو أيضا يدق بطريقة منتظمة, ويخضع هو أيضا لمعادلة رياضية, وقد استفاد الأطباء من هذا الأمر أكثر.

القاضي الثالث: دعك من كل هذه الأقوال يا جاليليو ولا تحاول أن تخدعنا بعبقريتك المبكرة, أنت متهم أيضا بإجراء تجارب غامضة من فوق برج بيزا المائل؟

جاليليو: إنها محاولة أخرى يا سيدي لإثبات عدم صحة أقوال أرسطو, لقد كان يقول إن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الأجسام الخفيفة, وقد ألقيت من فوق البرج كرتين من الرصاص إحداهما عشرة أضعاف الأخرى, ومع ذلك فقد سقطتا في الوقت نفسه, إن الأمر لا يتعلق بثقل الجسم هنا, ولكن بقوة الجذب التي تشع من الأرض.

القاضي الثاني: كلام فارغ, أرسطو هو أرسطو, ولا يمكن تكذيبه.

القاضي الأول: سوف نمر على تلك التهم البسيطة حتى نأتي إلى التهمة الأعظم, هل سمعت عن عالم يدعى كوبرنيكس؟

جاليليو: أجل يا سيدي, سمعت أنه قال أيضاً إن الأرض ليست مركز الكون, وقد حاكمته الكنيسة وقامت بإعدامه حرقاً بالنار منذ حوالي سبعين عاماً.

القاضي الأول: ما دمت قد سمعت عن هذا العالم المارق, وتعرف نهايته البشعة, كيف عدت تردد أقواله؟

جاليليو: لم أكن أريد ذلك, ولكن الحقيقة فرضت نفسها عليّ.

القاضي الثاني: أي حقيقة, أرسطو وحده هو الحقيقة؟

جاليليو (وهو يشير إلى منظاره): دعني أعد إلى المنظار يا سيدي, لقد اكتشف هذا المنظار في هولندا عام 1609 وقد سمعت أنه يقرب الأشياء البعيدة إلى درجة مدهشة, وقمت أنا بتصميم منظاري الخاص الذي يتكون من عدة عدسات وهو يكبر الأشياء البعيدة 21 مرة, واكتشفت بواسطته أن هناك ظلالا تبين وجود جبال فوق سطح القمر, وبقع سوداء على الشمس, يتغير موضعها, كما أنني شاهدت أقماراً صغيرة تدور حول كوكب (المشتري), الأهم من ذلك أنني اكتشفت كيف يتبدل شكل كوكب الزهرة, من قرص كامل إلى هلال صغير, تماما كما يحدث للقمر, ولو كانت الأرض هي مركز الكون لرأينا كل هذه الكواكب دون تبدل كما كان يقول أرسطو, ولكن الكواكب تتحرك ونحن نتحرك, وكلها تدور في مجموعة واحدة حول الشمس, وقد كتبت عن هذا الأمر كتاباً بعنوان رسالة النجوم, لاقى الشهرة في كل أرجاء أوربا.

القاضي الثالث: الناس يجرون دائما وراء الأكاذيب.

جاليليو: النجوم لا تكذب يا سيدي, وكذلك كوبرنيكس لم يكن كاذبا.

القاضي الأول: لا تستفز المحكمة بذكر اسم هذا الرجل, أتفهم؟

جاليليو: أجل يا سيدي.. ولكن..

القاضي الثاني: لعلك نسيت التعذيب الذي تعرضت له, نحن على استعداد لأن نكرره مرة أخرى.

القاضي الثالث: بل ما هو أسوأ.

جاليليو: إنني أشكر الله الذي جعلني أرى أشياء لم يرها أحد منذ بداية خلق الكون.

القاضي الأول: الكون لا يهتم بتلك الآراء الفارغة التي تقولها, ولكن البابا يهتم لذلك ويأمرك بالتراجع عن كل هذه الآراء, وأن تعلن أن الأرض ثابتة في مكانها.

جاليليو: ولكنها تدور.

القاضي الأول: سوف تدفع حياتك ثمنا لهذا القول.

القاضي الثاني: سوف نحرقك كما حرقنا كوبرنيكس.

القاضي الثالث: لن نتسامح مع من يخالف الكنيسة.

جلس جاليليو في أحد الأركان وهو يفكر حائراً, لقد قطعوا عنه راتبه, وأخذوا منه أدواته, ووضعوه في السجن دون أن يرحموا شيخوخته, كان يقول الحقيقة, وهو يثق تماماً أنه لا يوجد من يستطيع أن يخفي الحقيقة إلى الأبد, ولكنه الآن عليه أن ينقذ حياته من الموت حرقاً.

جاليليو: أنا أتراجع عن أقوالي, الأرض ثابتة في مكانها, وكل شيء يدور حولها.

خرج جاليليو من قاعة المحكمة, خرج حراً ولكن حزين, لم يكن الزمن قد أصبح مناسباً بعد لقلب كل الحقائق العلمية الجديدة, وقد عاش في عزلة بعد انتهاء المحاكمة لمدة تسع سنوات, ولم يضع هذه السنوات هباء, عكف على هوايته المفضلة في دراسة حركة الأجسام وعلاقتها بالزمن واستطاع أن يصمم (زنبرك) جديداً ودقيقا يمكن استخدامه في صناعة الساعات, ومات حزينا في 8 يناير عام 1642.

لم تعتذر الكنيسة عن خطئها في حق جاليليو إلا بعد 359 عاماً كاملة, ففي عام 1992, أعلن الفاتيكان أنهم قد أخطأوا في حق جاليليو وأنه كان على حق فالأرض تدور حول الشمس وسوف تظل تدور, ورغم أن الاعتذار جاء متأخراً كل هذه المدة إلا أنه تصدر العناوين الأولى في كل صحف العالم, وقد تحققت نبوءة جاليليو بأنه لا يوجد من يستطيع أن يخفي الحقيقة إلى الأبد.

 


 







جاليليو





جاليليو وهو يحرك البندول الأمر الذي مكّنه من تطوير اختراعه.





جاليليو وهو يقوم بإلقاء كرة من الرصاص من فوق برج بيزا المائل.





جاليليو وهو يقوم بعرض منظاره الجديد على بابا روما.





محاكمة جاليليو, لقد خسر في البداية, ولكنه كسب المعركة بعد 359 عاماً.





البندول الذي صنعه جاليليو قبل وفاته ودرس عليه قوانين الحركة.