الحسود لا يسود

الحسود لا يسود

في أحد الأيام، هبّت ريح عاصفة على بستان مزروع بشجر التوت، مما جعل إحدى الأشجار تهتز بعنف، فيضرب أحد أغصانها زجاج نافذة غرفة مهجورة في ذلك البستان ويكسره. ثم ينحشر داخل الغرفة.

وقد كانت تسكن في تلك الغرفة عقرب سوداء، فانزعجت، وصرخت:

ما هذا الصوت؟

أخرجت دودة القز رأسها من بين ورقة التوت وقد بدا عليها الحرج وقالت بخجل: أنا آسفة، لقد دفعت العاصفة الغصن، وحشرته هنا.

أخذت العقرب تتأمل دودة القز التي تطل عليها من بين الأوراق، وقالت بدهشة: من أنت؟ هل أنت حيوان، أم قطعة خيطان؟

ضحكت الدودة وقالت ممازحة: خيطان! لا لا.. أنا دودة حيوان لطيف، وعاملة نشيطة، ومخلوقة ودودة.

لكن العقرب، رفعت ذيلها إلى أعلى، وأخذت تتبختر بخيلاء وقالت: ألا تخجلين من هذا الشكل؟

تبسمت الدودة بود، وقالت: ولم الخجل؟ المهم هو العقل والعمل.

ولكن العقرب استمرت بتجريح الدودة، وبالتعالي عليها ونعتها بالمخلوقة القبيحة.

في الوقت الذي كانت فيه تتأمل الدودة الملساء وتقارن بين جلدها القاسي الأسود، وبين جلد الدودة الناعم الأبيض. أما الدودة، فلم تهتم بما نعتتها به العقرب، وانهمكت بالتهام أوراق التوت، بينما ذهبت العقرب، وأخذت تصرف كل ما لديها من مال لشراء الكريمات، والزيوت، وتدلك جلدها.

بعد أيام، تأكدت العقرب أن لا فائدة من كل الزيوت والكريمات، فسيبقى جلدها قاسيًا مهما فعلت، فقررت إنهاء حياة الدودة.

عادت إليها، وحدثتها بود قائلة: يا جارتي، أمازلت تأكلين!؟

ردت الدودة:هذه مهمتي في الحياة.

تعجبت العقرب وصاحت: الأكل! مهمتك في الحياة، الأكل؟!!!

ضحكت الدودة وقالت: لا.. ليس الأمر كذلك، فمهمتي الأساسية الغزل ولكنني الآن آكل كثيرًا ليقوى جسدي، ثم بعد ذلك أغزل شرنقتي.

سألت العقرب بدهشة: شرنقة؟ وما هي الشرنقة؟

ردت الدودة: إنها خيطان من الحرير، أخرجها من جسمي، وألفها حوله، وحين تكتمل، يأخذني الإنسان ويضعني في ماء ساخن، ثم يفك الخيط عن جسدي، ويصنع منه ملابس جميلة للصبايا.

صاحت العقرب: ماء ساخن؟ ألا يؤلمك ذلك؟

ردت الدودة ضاحكة: يؤلمني؟ أنا طبعًا أختنق فيه وأموت.

فقالت العقرب متعجبة: كم أنت بلهاء، أيقتلك، وأنت تغزلين له الحرير؟

فقالت الدودة: إن لم يفعل ذلك، أخرق الشرنقة وأطير، لأعيش يومًا واحدًا ثم أموت.

ثم أخذت الدودة تحدث العقرب عن لغز الحياة، وكيف أن لكل مخلوق مهمة، ويجب أن يبذل من أجلها الهمة، وسيجد في تحقيقها السعادة، وهذا هو لغز الحياة الجميل.

ولكن العقرب رفضت هذا الكلام، فهي ترى السعادة في أن تغرز إبرتها في جسد الإنسان، وتستمتع بمنظره، وهو يتلوى من الألم، ثم يموت. ثم تركت الدودة غاضبة ومضت، ولكنها لم تستطع نسيانها فنادت، وتنحنحت قائلة: يا جارتي الدودة، أمازلت هنا؟

ردت الدودة: نعم مازلت هنا.

العقرب: إذن تعالي.. انزلي لنتحدث قليلاً، ونشرب القهوة.

ردت الدودة بود: أنا آسفة يا جارتي، فأنا مشغولة جدًا، وليس لديّ وقت للجلوس.

فقالت العقرب: أمازلت تريدين غزل الخيطان؟

ردت الدودة: نعم، وقد آن الأوان. قالت ذلك بمرح وحماس.

غضبت العقرب حتى ارتعشت من شدة الغضب، ولكنها كبتت غضبها وعادت إلى لهجتها المرحة وقالت: لا تفعلي يا مجنونة، الإنسان يكرهنا. فقالت لها الدودة: حاولي أن تجعليه يحبك. فصرخت العقرب: إنه لا يحب إلاّ من له شكل جميل. انظري إليه، كم يعتني بالعصافير والطيور المغردة.

ردت الدودة بلهجة جادة: بل يحب أيضًا من له طبع جميل، وفعل جميل وأنت لا تتوانين عن إيذائه، فكيف يحبك؟

ازدادت العقرب غيظًا من الدودة التي تصر على أن تقابل الإساءة بالإحسان، فقررت أن تسرع بإنهاء حياتها، فلم تعد تستطيع احتمال وجودها على قيد الحياة، فشحذت إبرتها، ووضعت خطتها.

وبينما كانت الدودة قد بدأت بغزل شرنقتها، تسللت العقرب وخرجت من تحت باب الغرفة، ومشت باتجاه شجرة التوت التي تغزل الدودة فوق غصنها المحشور في الغرفة المهجورة. لكنها رأت الإنسان وهو يجمع الكثير من الكرات الصفراء عن الشجر، ويضعها في سلة كبيرة. فتهيأت لتغرز إبرتها في قدمه. ولكنها تذكرت غريمتها الدودة، فتراجعت خشية أن يعطلها الإنسان عن هذه الغاية. فاختبأت في زاوية حتى غادر الإنسان البستان. ثم تقدمت حتى وصلت إلى الشجرة، وتسلقتها، ثم مشت فوق الغصن المحشور في النافذة، حتى دخلت إلى الغرفة، ولكنها تجمدت في مكانها عندما لم تر الدودة، بل وجدت أمامها كرة صفراء مثل التي كان يجمعها الإنسان عن الشجر، ثم تحركت هذه الكرة، وانشقت وخرجت منها فراشة جميلة، رفرفت بجناحيها سعيدة، ثم وقفت على طرف الغصن، ولما رأت العقرب، صاحت بمرح: مرحبًا أيتها العقرب.

صاحت العقرب بدهشة: من أنتِ؟

ضحكت الفراشة وقالت: الآن أصبح اسمي فراشة الحرير.

فصاحت العقرب: أنت الدودة؟

ردت الفراشة: نعم، ولأن الغصن كان محشورًا داخل هذه الغرفة، لم يرني الإنسان، ولذلك خرقت الشرنقة، وهأنذا قد أصبحت فراشة، وسأعيش يومًا واحدًا فقط، لكنه يكفيني، لأنني أنوي، أن أستمتع بكل دقيقة فيه، كما سأحاول أن أكون مفيدة، فأحمل غبار الطلع بقدمي من الزهور المذكرة إلى الزهور المؤنثة، لكي يحصل التلقيح، فتستمر دورة الحياة، والآن وداعًا يا جارتي، فقفزت الفراشة، وطارت عبر الزجاج المكسور، وخرجت إلى الفضاء الواسع سعيدة بالحياة الجديدة التي منحت لها.

ولكن حين قفزت اهتز الغصن، فسقطت العقرب على الأرض، فأخذت تصرخ بغضب وهي تدور حول نفسها: لقد أصبحت أكثر جمالاً، أكثر جمالاً، أكثر جمالاً.

ومن شدة غيظها، أخذت تضرب رأسها بإبرة ذيلها حتى تكسرت عظام جمجمتها، ودخل السم إلى دماغها، فسقطت ميتة.

أما الفراشة فكانت في البستان تلاعب زهرة جميلة، وتغني مع نسمة عابرة.

 

 


 

خديجة الأطرش