الشقيقان

الشقيقان

كانت أنسام الربيع تأتي محملة بشذى الأشجار التي أزهرت. وكان المجاهدون قد اختاروا بستانا ينامون به تلك الليلة استعدادا لمواجهة الجنود الإيطاليين في اليوم التالي.

كان مسعود قد بسط فراشه واختار مكانا تحت شجرة زيتون وحاول أن ينام, ولكنه ظل يتقلب على جنبه الأيسر حينا وجنبه الأيمن حينا آخر دون أن يذوق للنوم طعما, بجواره كان ينام عاشور, أحد رفاقه في الجهاد وأحد أبناء قريته, أحس عاشور بأن مسعود يعاني من شيء ما, ظن أنه خائف من المعركة التي خطط المجاهدون للقيام بها في اليوم التالي, قال عاشور مخاطبا مسعود:

- يبدو أنك مهموم يا مسعود, إنها ليست المعركة الأولى التي تشارك فيها, إن الأعمار بيد الله, ثم إن الشهادة هي مطلبنا جميعا فلماذا الخوف?...

- لست خائفا يا عاشور.

- إذن ما هي المشكلة التي تجعلك مهموما إلى هذا الحد?

قال عاشور وهو يتنهد في حسرة وألم:

- إنني أفكر بأخي علي, وبالعار الذي يلحقه بقريتنا, وبذكرى المرحوم والده.

كان مسعود قد ترك أخاه علي لزراعة الحقل ولإعالة والدته العجوز وأخوته الصغار, ولقد تناهت إليه أخبار من القرية بأن شقيقه علي قد ترك الزراعة وانضم إلى جنود الطليان, لقد عينوه في البداية خفيرا لأحد المخازن, ثم ألبسوه البذلة العسكرية وضمّوه إلى جيشهم ليحارب في صفوفهم ضد المجاهدين.

قال عاشور محاولا أن يخفف من أحزان رفيقه في السلاح:

- لاشك أنهم أرغموه على ذلك, إنك تعرف شراستهم.

قال عاشور في نبرة غاضبة:

- كان يجب أن يرفض حتى لو هددوه بالقتل, الموت أهون من هذا العار الذي يلحقه بأهله وأبناء وطنه.

لم يدر عاشور ماذا يقول, فالأمر فعلا يدعو إلى الغضب والألم, ولكنه حاول أن يبعث الطمأنينة في قلب صاحبه, قائلا:

- قد يكون الأمر مجرد إشاعة...

- أتمنى أن يكون الأمر مجرد إشاعة, ولكنك تعلم يا عاشور أن الرجل الذي نقل إلينا الخبر صاحب عقــل ودرايـة, أتمنى لو أستطيع أن أذهب بنفسي هذه اللحظة لأستجلي حقيقة الأمر, ولكن ما العمل ونحن على أهبة الاستعداد لإحدى أهم معاركنا مع العدو?!

- إذن دع الأمر إلى ما بعد المعركة, وحاول أن تنام قليلا, فإن أمامنا يوماً صعباً.

- وفي حين نام عاشور, ظل مسعود ساهرا يفكر في هذا الأمر الجلل, هل حقا ارتضى شقيقه على نفسه العار والمذلة, وماذا تقول أمه التي كانت فخورة تزغرد وهي ترسل بأكبر أولادها إلى الجهاد, ألم تستطع أن تمنعه من القيام بهذه الفعلة المخزية, إذا ما كان الأمر حقا فإنه سيذهب إليه أينما كان ويقتله, فهذا هو جزاء الخيانة, ظل ساهرا إلى أن شعشع الفجر وسمع صياح الديكة, ورأى المجاهدين يقومون للصلاة, تعوّذ بالله من الشيطان الرجيم واستغفر الله العظيم وقام إلى الوضوء والصلاة مع الجماعة ودعا لشقيقه بالهداية وطلب من الله أن يفرّج كربته وألا يجد نفسه في موقف يضطر معه إلى قتل شقيقه ابن أمه وأبيه. بدأ المجاهدون في سرج الخيول والاستعداد للرحيل حيث يتوجهون إلى الموقع الذي سيواجهون فيه معسكر العدو, إنه موقع يقع على بعد نصف يوم من السفر, وقبل أن يباشروا رحيلهم سمعوا صوت رصاصة أطلقها أحد المجاهدين المكلفين بالاستطلاع والحراسة, ثم رأوه قادما نحوهم يدفع أمامه بجندي من جنود الأعداء, كان مسعود قد امتطى جواده ووقف في حالة تأهب واستعداد يستطلع جلية الأمر, لم يستطع أن يتبين على البعد ملامح الجندي الإيطالي, وما إن رآه يقترب حتى قفز من فوق جواده وذهب يخترق صفوف المجاهدين, فقد عرف أن هذا الجندي ليس إلا شقيقه علي يرتدي بدلة العساكر الطليان, كان يريد أن يطلق عليه النار وهو يراه في هذه البذلة ولكن بقية المجاهدين أوقفوه ومنعوه من الوصول إليه وبدأوا يتعرّفون إلى سبب مجيئه إليهم في هذه الساعات الأولى من الصباح, وفي زحمة الأسئلة والاستفسارات بدأ علي يسرد للمجاهدين قصته, لقد أرغموه فعلا على الالتحاق بجند الطليان, ولكنه منذ اليوم الأول لالتحاقه صمم على أن يكيد لهم ويخدم حركة الجهاد من داخل خطوط الأعداء, وبدأ يتسقط الأخبار حتى عرف أن الطليان ينصبون كمينا للمجاهدين, ولذلك فقد أعدوا أنفسهم ووزعوا جنودهم للاختفاء خلف الأحراش التي تقع بالطريق الذي يؤدي إلى المعسكر لكي ينقضّوا على المجاهدين في حين غفلة قبل لحظة وصولهم إلى موقع الأعداء, ولقد أبدى استعداده لأن يتولى الحراسة هذه الليلة لكي يستطيع أن يهرب تحت غطاء الليل ويخبر المجاهدين بالكمين الذي أعدوه لهم. وهذا ما حدث, فما إن حل الظلام حتى تسلل هاربا وصار يعدو طوال الليل إلى أن اهتدى إلى مجموعة المجاهدين التي تتولى الاستطلاع والحراسة.

تقدم أحد شيوخ المجاهدين يشكره ويحيي إخلاصه ووطنيته ويطلب منه الانضمام منذ الآن إلى صفوف المجاهدين, أما مسعود فقد وجد الدموع تنهمر من عينيه وهو يردد في سعادة وارتياح:

- الحمد لله... الحمد لله...

قالها وهو يفتح ذراعيه على وسعهما يحتضن شقيقه علي.

 


 

أحمد الفقيه