قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رينيه لينيك

اسألوا ألعاب الأطفال

يا له من خبر صاعق...!!

ويالها من لحظة غريبة كان عليها أن تغير حياته تماما.

لم يرد الطفل (رينيه) أن يبكي, وهو يسمع هذا الخبر المؤلم, بل قال لأبيه الذي عانقه بقوة:

أبي... لن أبكي الآن على فراق أمي... بل من الأفضل أن أؤجل هذا..

وحبس الصغير دموعه, رغم أنه يعرف, كم أن الدموع مفيدة لمن في مثل ظروفه, لقد أصاب المرض أمه الرقيقة, وانتشلها منه, ولم يتمكن الأطباء من إنقاذها.

حدث ذلك في مدينة (نانت) في فرنسا عام 1791, أي بعد قيام الثورة الفرنسية بعامين, حين خرج الثوار الفقراء في كل أنحاء المدينة ينادون بالخبز والحرية, وهاهي أمه قد دفعت حياتها ثمنا لمرض استبد بها.

وفي ذلك اليوم, قرر الصغير (رينيه) أن يصبح طبيباً... قال لأبيه:

- إذا كان الأطباء لم يتمكنوا من علاج أمي الشابة, فليساعدني الله أن أعالج الكثيرين.

وقرر الصغير أن يدرس الطب, وأن يتخصص في مرض (السل) الذي اختطف منه أمه وتفوق (رينيه) في الدراسة, وعندما تسلم شهادة التخرج, قال لأبيه, والدموع تنذرف من عينيه:

- الآن... فقط أستطيع أن أبكي, أن تنزل كل هذه الدموع المخزونة من أجل أمي...

وامتزجت دموع حزنه المؤجل على أمه, بدموع الفرح لتخرجه...

وصارت أمام الشاب الناجح رحلة طويلة, فقد قرر أن ينضم إلى الجيش عندما عرف أن (السل) قد استبد بالكثير من الجنود...

وركب السفن التي تحمل الجنود, وانتقل معهم إلى أماكن عدة في الأسطول الفرنسي. وتمكن من دراسة المرض, وعلاج بعض الحالات.

وارتاح قلبه كثيرا, وهو يعرف أن للمرض أسبابه, وإن عليه القضاء على هذه الأسباب.

وعاد الجنود من الحرب, يملأهم الألم, والمرض, لكنه راح يردد:

- عندما يشتد الألم, يكثر الأمل.

كان يقوم بفحص المرض بدقة, ومهارة, وغدا الطبيب الأكثر مهارة في البلاد كلها, وبدا الأمل يتسرب قليلا قليلا إلى قلبه.

لكن, كم كان يحس بالخوف, وهو يتنسم أنفاس المرضى, عندما يضع أذنه على صدورهم ويجعلهم ينفسون ليتمكن من تشخيص ما بصدورهم.

وأخذ يفكر في إيجاد وسيلة تقلل من إحساسه بالخطر.

وراح التفكير يزداد يوما بعد يوم, إلى أن حدثت المفاجأة.

فهاهي الفتاة الصغيرة (جان) قد مسّ المرض صدرها, وقد جاءته مع أبيها من أجل فحصها, إنها في حال خطيرة, والمرض قد يحرمها من متعة الحياة مثلما حدث مع أمه.

عليه أن يتفحصها.

لكنها فتاة, ترى ماذا يفعل?

يجب أن يستمع إلى نبضات القلب, من أجل التشخيص البدائي للمرض, هناك طريقة أخرى بالتأكيد, أسرع إلى الحديقة, يتنسم الهواء النقي, ويفكر بصورة أفضل. وفجأة شاهد طفلين يلعبان على مقربة منه, إنهما يلعبان لعبة غريبة, فقد أمسك أحدهما بقطعة من البوص المجوف, وقربها من أذنه اليسرى, بينما راح الطفل الآخر يخدش في طرف البوصة, فيضحك صاحبه كأنه يسمع الخدش.

اندهش (رينيه لينيك) وصاح وهو يربت على الصغيرين:

- أيها الصغيران, تعلمت منكما مالم أتعلمه في حياتي.

اكتشف (رينيه) أنه يمكن للمرء أن يسمع من خلال قطعة بوص مجوفة, أو أنبوبة مجوفة, الأصوات على الطرف الآخر.

وأسرع يبحث عن خرطوم الري في الحديقة, وجرب المحاولة مع الطفلين وبينما كان الصغيران يضحكان من هذه اللعبة الجميلة, كان (رينيه) يكتشف اختراعا عظيما, بالغ البساطة, والفائدة.

إنه سماعة الطبيب.

بسرعة راح يعد أول سماعة طبية في التاريخ, تمكن الطبيب من فحص المريض دون أن يمسّه, أو أن يسبب له أي حرج, كما أن هذا يحمي الطبيب من العدوى المباشرة بهذا المرض.

ونجح (رينيه) في تشخيص حالة (جان) واستطاع علاجها بعد فترة من الوقت وفتح (رينيه) باب الأمل للقضاء على أخطر مرض كان يهدد البشرية طوال قرون, وصار السل, مرضا من عصر قديم, لم يعد العالم يعرفه كثيرا, وكان (رينيه) كلما سألوه عن سر اختراعه, يقول ضاحكا:

اسألوا ألعاب الأطفال.

 


 

محمود قاسم