السمكة الذهبية

السمكة الذهبية

ترجمها عن الإسبانية: محمد إبراهيم مبروك

رسوم: حلمي التوني

من زمن بعيد، وفي جزيرة صغيرة في المحيط الهادي، كان يمكن رؤية كوخ، وفي هذا الكوخ كان يعيش زوجان فقيران جدًا، رجل شيخ وامرأته العجوز.

جهز الشيخ عدة الصيد لكي يصطاد، وكانت عدته عبارة عن بوصة متينة، ويمكنها أن تنثني دون أن تنكسر، وبها خيط وصنارة مربوطة بعقدة بطرف الخيط. وعلى هذه العدة البسيطة كانت تعتمد هذه الأسرة الفقيرة في تدبير قوتها. وكل يوم الصبح، والعصر يأخذ العجوز الطيب بوصته ويحملها على كتفه كما لو أنها بندقية، ويأخذ طريقه ماشيًا حتى البحر. وكان يحمل بالإضافة لبوصة الصيد مقطفًا وسلة صغيرة مليئة بالفضلات، وهي ما يسمونه «الطعم» الذي يصطادون به السمك.

وعندما يصل إلى البحر يصعد فوق صخرة على الشاطئ، ويضع الطعم في الصنّارة، ويسقطها في الماء، ويظل منتظرًا طوال الوقت بصبر، حتى تبدأ السمكة تعض الطعم.

وفي أحد الأيام، وقت العصر، بعدما أسقط الصنارة في الماء، والغماز غمز، أحس بها ثقيلة أكثر من مرات الصيد الأخرى، ثقيلة لدرجة أنه يستطيع بالكاد أن يشدها ويرفعها، وفي النهاية وبعد جهد كبير، اصطادها، والسمكة التي أمسكت بالصنارة، لم يكن في حياته كلها قد رأى سمكة مثلها! كانت سمكة ذهبية!

ما كاد يطبق عليها بيده حتى سمع ما تقوله بصوت بني آدم، قالت له:

- يا شيخ، لا تتركني أموت مختنقة خارج المياه، أعدني للبحر مرة أخرج، ولو عملت هذا، سأضع نفسي تحت أمرك وفي خدمتك، وكل ما تتمناه وتطلبه مني ستناله.

وفكر الصياد الفقير لحظة وفي آخر الأمر كان رده أنه قال لها:

- اذهبي، اذهبي يا سمكة يا مسكينة، وأنت لن تسدي حاجتي لأن الأسماك الذهبية لا تصلح للأكل. اذهبي وتمتعي بسباحتك في البحر.

وكان يقول ذلك وهو يلقي بها في الماء لتعود إلى البحر، وجمع عدة الصيد وعاد ماشيًا إلى الكوخ.

وظل حزينًا طول الوقت، لأنه لم يكن قد اصطاد شيئًا طول النهار، ولذلك فلن يتعشى هذه الليلة، ولن يجد شيئًا يسد به جوعه إلا شربة ماء. ولكن ماذا عن امرأته العجوز، هل ستكتفي بذلك مثله؟

ولما وصل ورأته امرأته العجوز سألته:

- هل كان الصيد حلوًا؟

- حلو جدًا! لم أصطد من ساعة العصر أكثر من سمكة ذهبية، ورجعت ورميتها في الماء، لأن السمكة الذهبية المسكينة ظلت ترجوني بحرقة من قلبها لدرجة أنني لم أستطع مقاومتها. لم تبك، لكنها قالت لي بصوت أثار شفقتي: «أيها الشيخ أعدني للبحر الأزرق! وأنا سأبقى دائمًا في خدمتك! وسأعمل كل ما تأمرني به!». وأنا أخذتني الشفقة بها، فأعدتها مرة أخرى للبحر، لكني أشعر بالحسرة على أنني لم أسألها عما هي الخدمة التي يمكن أن أطلبها منها وتعملها لي!

- آه يا شيخ يا أبو عقل خفيف، ها هي الفرصة جاءت إليك ولم تعرف كيف تستغلها.

قالت الزوجة العجوز ذلك وهي تنفجر غاضبة وأفرطت في سباب زوجها وقذفت رأسه بما وصلت إليه يدها وآذت مشاعره بألف طريقة وطريقة. ووصل بها الغيظ إلى أن عضت يدها.

- نعم! كان عليك، على الأقل، أن تطلب من سمكة الهنا رغيفي خبز! وأنت ترى بنفسك أننا لا نملك لقمة عيش نضعها في فمينا، وإلا ماذا سنأكل؟

نفد صبر الشيخ، فوضع القبعة فوق رأسه وخرج ليبحث عن السمكة الذهبية ليطلب منها رغيفي خبز.

وعندما صار قريبًا من الماء على الشط صاح بصوت عال:

- يا سمكة يا ذهبية، يا سمكة يا ذهبية! تعالي إليّ: ذيلك في الماء ورأسك خارجه!

ولم تتركه السمكة الذهبية ينتظر طويلاً، صحيح أنها كانت بعيدة، ولكنها أخرجت رأسها من الماء في الحال، ورأسها لمع وتزايد لمعانها بأشعة الشمس الأخيرة وهي تغرب.

وفي لحظات كانت بجوار الشاطئ.

- ماذا تريد يا شيخ يا طيب؟

- لأنه لا يوجد عندنا ما نأكله، زوجتي تعاركت معي، وقالت لي أسألك أن تعطينا رغيفي خبز، وأنا أعلم أن السمك ليس عنده خبز في بحركم، لكن كما قلت لي، أن ألجأ إليك دائمًا كلما احتجت شيئًا، وأنا لجأت لك لأرى كيف ستساعدينني.

وببساطة أجابت السمكة طلبه:

- ارجع إلى بيتك يا رجل يا طيب، وستجد هناك خبزًا كثيرًا.

تشجع الشيخ ورجع إلى بيته، وعلى الرغم من وعدها، فلم يكن مطمئنًا تمامًا. بل شك كثيرًا في أن السمك يمكن أن يعطيه خبزًا.

وعندما صار قريبًا من الكوخ صاح:

- حسنًا، ماذا وجدت عندك، عندك خبز الآن؟

- الخبز صار عندنا أكثر مما نحتاج، ولكن ليس كل شيء على ما يرام، فقد انكسر الماجور (الوعاء الكبير) الذي نغسل فيه ملابسنا، ولم أستطع غسل المفرش الذي نأكل عليه. ارجع مرة ثانية، وابحث عن السمكة الذهبية، واطلب منها ماجورًا جديدًا للغسيل.

لم ينطق الشيخ بكلمة، ومشى في الطريق بنفس مصدودة، كان تعبًا، والوقت متأخرًا، وزيادة على ذلك لم يكن مقتنعًا بأنه شيء لا بد منه، وماذا يعني مفرش للأكل، من أجل أكلة متواضعة؟

عندما وصل إلى البحر وقف على الشاطئ وصاح:

- يا سمكة يا ذهبية يا سمكة يا ذهبية تعالي إليّ: ذيلك في الماء، ورأسك خارجه.

وفي دقائق قليلة كانت السمكة بجانب الشاطئ.

- ماذا تريد يا رجل يا طيب؟

- لا تشعري بالضيق مني يا سمكتي الذهبية، إنها زوجتي، بعثتني لتعطينا ماجورًا جديدًا للغسيل.

- كن حريصًا معها، وارجع إلى بيتك وستجد الماجور عندك.

أحس الشيخ براحة ورضا، ومشى إلى الكوخ وهو يكاد يثب من شدة الفرح، لأنه لا تساوره الآن الشكوك التي ساورته في المرة الأولى. فوعود السمكة لم تكن خادعة.

وفكر: «الآن سأرجع إلى بيتي وأجد المفرش مغسولاً، وسنتعشى ببعض الخبز الموجود لدينا، ونتمدد ونستريح على فراشنا».

ولكن الأمور لم تحدث كما تخيّلها الرجل، فلم يكد يصل إلى عتبة الكوخ حتى كان صراخ امرأته ينفجر في وجهه:

- امش يا رجل. ارجع فورًا وقل للسمكة الذهبية تبني لنا كوخًا جديدًا، ألا ترى كوخنا وهو بالفعل آيل للسقوط؟ أنا لا يمكنني من الآن العيش هنا يومًا واحدًا إضافيًا، وإلا سيطلع علينا النهار ونحن مدفونان تحته.

الرجل العجوز ود لو رفض الذهاب. وقال لها إن الكوخ ليس بالحالة السيئة التي تجعله ينهار هذه الليلة بالذات، وأن الأفضل أن ينتظر حتى الصباح، لأن الدنيا ليل، وأننا في حاجة إلى أن نأكل وننام. لكن زوجته العجوز تملكها الغضب، وبتفكيرها الخارق للعادة ردت عليه: ربما في الصباح يكون الوقت قد فات. أو تكون السمكة قد ابتعدت كثيرًا عن هذا الشاطئ القريب منا، أو تكون وقعت في شبكة صياد آخر قلبه أقل حنانًا وشفقة من قلبك.

ونتيجة المجادلة كانت أن الرجل الشيخ أخذ طريقه مرة أخرى إلى البحر. ومثلما حدث في المرتين السابقتين، عندما وصل بالقرب من الشاطئ صاح:

- يا سمكة يا ذهبية. يا سمكة يا ذهبية. تعالي إليّ..ذيلك في الماء ورأسك خارجه.

ودون أن تجعله ينتظر دقيقة واحدة، وكما لو أنها واقفة في انتظاره بالقرب من الشاطئ، سألته السمكة:

- ماذا تريد؟

- أريد.. آه.. الأفضل أن أقول إن امرأتي هي التي تريد. وهي تريد أن تعطينا كوخًا جديدًا لأن كوخنا آيل للسقوط. وأنت لا تتخيلين ثورة المرأة العجوز الآن.

- حسنًا.. لا تقلق يا رجل يا طيب.. ارجع إلى بيتك وصلّ لله، وتأكد من أنك سترى ما طلبته وبالشكل الذي يرضيك تمامًا.

- شكرًا.. شكرًا يا سمكتي الذهبية، أنت قيمتك أكبر بكثير من وزنك ذهبًا، ومع السلامة، وتأكدي أنني سأكون حريصًا ألا أتعبك أكثر من ذلك.

ورجع الشيخ الطيب إلى بيته بما يكفي من الرضى، لكن هل كان راضيًا تمامًا؟ لأنه كان يخشى من طمع امرأته العجوز في طلب آخر. وفجأة رأى أمامه بالفعل بيتًا جديدًا تمامًا، بيتاً مصنوعاً من خشب السنديان. والجزء العلوي منه مزين بزخارف من خشب غامق أكثر، لأن البيوت في تلك البلاد لم تكن بها كرانيش مثل بيوتنا.

ومن هذا البيت الجديد فوجئ الشيخ الطيب بالمرأة العجوز تخرج إليه، وبصوت أكثر غضبًا من المرات السابقة صرخت في وجهه:

- يا رجل يا أبله، أنت ترغب في موتي؟ ألا تعرف كيف تنتهز الفرص؟ تطلب كوخًا جديدًا لأنني قلت لك كوخ جديد، وتعتقد أنك بذلك عملت ما عليك؟ امش من هنا حالاً وابحث عن السمكة الذهبية، وقل لها، زوجتي لا تريد أن تصل ليلها بنهارها في هذه العيشة، عيشة الفلاحة الفقيرة. وتحب من الآن أن تكون أرشيدوقة (سيدة نبيلة لها مركز كبير) عندها خدم وحشم وتعيش بين كبار شخصيات البلد، وتُستقبل بالتشريفة والانحناءات والاحترامات.

- كل هذا جميل يا امرأة، لكن ألن تتركي شيئًا للغد؟ أنا تعبان من كثرة ذهابي ومجيئي، وأمعائي تتقطع من الجوع.

خلعت العجوز فردة حذائها وقذفت به رأس زوجها بينما تقول له:

- انتبه لما تعمله، ولما تقوله. ولا تجعل دمي يغلي من شدة الغيظ. اختف من أمام وجهي لأنك لن تنال مني ولا حتى الرغيف الحاف، امش واقفل الباب وراءك، وستنام في الخارج في الخلاء طول الليل. هذا ما تستحقه، ويستحقه أمثالك، النوم في الخلاء وأنت جائع. ألا تفهم أن الصبح ربما يطلع ولا تكون السمكة حية؟ ونبقى نحن من دونها ولا شيء يحمينا. الواجب أن نطلب منها ونأخذ كل ما يمكننا أخذه. اذهب وستعلم أن الغد سيكون أحسن من الأمس، وستقضي النهار كله نومًا في نوم، وأكلك سيجيء لك في السرير، والذي سيحضره لك الخدم الذين سيعملون لدينا.

لم يندهش الشيخ من البرنامج الذي سيكون عليه اليوم التالي، لأن جسمه ازداد ثقله، وجعله يفكر في يومه هذا الآن. لكنه في النهاية، ولكي يقضي إجازته في سلام، قرر العودة إلى البحر بهذه المأمورية الغريبة المكلف بها.

نادى مثلما كان يفعل في المرات السابقة، فحضرت السمكة. وقال لها الشيخ ما طلبته امرأته، ورأى، ويا للغرابة، أن السمكة لم تندهش، ولم تفتح عينيها على آخرهما، ولم تطر وتلمس السماء بزعانفها، بل اكتفت بأن أجابته كما يحدث دائمًا:

- كل شيء سيكون على ما يرام يا رجل يا طيب. ارجع إلى بيتك، وصلّ لله، وكن واثقًا أن كل شيء سيتحقق كما طلبت.

عاد الرجل الطيب إلى بيته، وفي مكان الكوخ الجديد، ماذا نقول عما رآه؟ لقد رأى قصرًا مبنيًا بالحجارة ومن ثلاثة طوابق ومحاط بسور من الحديد يضم البيت وحديقة جميلة.

وداخل القصر والحديقة عديد من الخدم والمساعدين يتحركون هنا وهناك وهم يرتبون الغرف.أما المطبخ الكبير فلم يكن يتسع للطباخين والخدم. وفي النهاية، ولكي تصل دهشته إلى ذروتها، رأى زوجته وهي ترتدي فستانًا غاليًا مشغولاً بالذهب والفضة، جالسة على كرسي بالغ الفخامة وهي تلقي الأوامر.

- ربنا يحميك يا امرأتي الغالية.

- كيف تقول امرأتي؟ هل سمعتم ما قاله هذا الصعلوك؟ يدعوني امرأته؟ يقول هذا عني أنا.. أنا الأرشيدوقة؟ يا قلة الحياء. هيا امسكوه وضعوه في الاسطبل، واعطوه حقه، علقة ساخنة بالكرباج (السوط).

أسرع السياس (مفردها سائس وهو مدرب الخيول) وأمسكوه وساقوه إلى الاسطبل، وهناك أشبعوه ضربًا ولكمًا، وجلدًا بالكرابيج. وتكالبوا عليه بهوس لإيذائه وإهانته بالشتائم التي استقبلوه بها حتى إن ما لحقه من الأذى كانت آثاره واضحة عليه، وكادت تفضي به إلى الموت. وعندما توقفوا عن ضربه، وقف على قدميه بالكاد.

لجأت المرأة العجوز إلى هذه الطريقة، كي تحكم على زوجها بأن يعمل بوابًا للقصر.

وأمرتهم أن يعطوه مكنسة لكنس مدخل القصر، وأمرتهم أيضًا أن يشغلوه خادمًا في المطبخ.

يا لتعاسته، إذ كان معرضًا لتلك الحياة الشديدة القسوة أكثر مما يمكن احتماله: يكنس مدخل القصر طوال اليوم، ويتبادل السياس ضربه في الاسطبل، وكان يفكر بينه وبين نفسه:

- أي عجوز قبيحة تلك المرأة. كل الخيرات لها، وكل اللعنات تصبها عليّ؟ إنها تتصرف تصرف امرأة قليلة الحياء، بل الأدهى والأمرّ أنها لا تريد أن تعترف بأنني زوجها.

لكن ما حدث أنه بعد وقت قصير ملت المرأة العجوز من حكاية أنها أرشيدوقة. وعندئذ أمرتهم أن يجيئوا لها بالرجل الطيب، وقالت له:

- يا شيخ يا أبو مخ فارغ. اذهب وابحث عن السمكة الذهبية وقل لها إن زوجتي لم تعد تحب أن تستمر حياتها هكذا: أرشيدوقة، بل تريد أن تصبح إمبراطورة.

ودون أن يقول الشيخ كلمة واحدة للمرأة العجوز، مضى بالرسالة إلى السمكة التي ردت عليه:

- حسنًا جدًا.. لا تشغل بالك. ارجع إلى البيت، وصلّ لله، وكل شيء سيكون كما تريد.

وبالفعل، عندما عاد فوجئ بقصر عظيم، مبني كله بالرخام، وسقوفه بالذهب، في مكان القصر القديم، والقصر محاط كله بالحراس الأشداء والشجعان، ولديهم إحساس عال بالمسئولية لحماية القصر ومداخله. وخلف القصر تمتد أرض واسعة محاطة بسور وهي عبارة عن حديقة للقصر، وبها موقف للعربات التي تجرها الجياد، ومصاطب (مدرجات حجرية) فيها أحواض زهور متفتحة، والمصاطب تنحدر بالتدريج حتى نهير صغير، وأمام واجهة القصر مرج أخضر. وهناك كانت تقف في طوابير متراصة أعداد من حرس الشرف تتحرك في طابور استعراض على مرأى ومسمع من الإمبراطورة التي تطل عليها.

كانت العجوز ترتدي الملابس الإمبراطورية الرسمية، وقد أطلت من شرفة القصر الإمبراطوري، وفي صحبتها رؤساء الجيوش يشكلون أركان الحرب، وخلفها وإلى جانبها حراس القصر. قرعت الطبول، وعزفت الموسيقى، والجنود هتفوا بصوت عال: «عاشت الإمبراطورة».

أدار هذا المشهد رأس الشيخ الفقير وأصابه بالذهول.

ولكن المرأة أصابها الملل أيضًا من شغلة الإمبراطورة هذه، وعندئذ أمرت من في القصر بأن يبحثوا عن الشيخ حتى يجدوه، ويأتوا به ليركع أمام عظمتها.. الدنيا كلها من أول الجنرالات حتى السياس والخدم أصابتهم حمى نوال الرضا السامي فنشطوا في البحث بجنون عمن يكون هذا العجوز، وأين سيكون غارقا في العمل المربوط عليه؟ هذا ما كان يدور بينهم. فاندفع للبحث عنه كل من لهم طبيعة المخبرين، وكل من لهم أنوف لها حاسة شم الكلاب البوليسية، ومن ورثوا مهنة تتبع الأثر، وفي نهاية الأمر، وبعد قلب الدنيا عليه، عثروا عليه تائهًا بين آخر وأبعد الخدم في الحجرات الأخيرة في البدروم. وجاءوا به ليقف أمام الإمبراطورة.

كانت السيدة العظيمة ترتدي ثوبًا أخضر مشغولاً بالذهب، في اليد اليسرى الصولجان الذهبي، وفي اليد اليمنى مروحة عظيمة مصنوعة من ريشات حمراء كبيرة، من تلك المراوح المسماة «مروحة بنت البستوني».

رأته وهو يدخل حتى توقف أمامها. قالت للرجل الطيب:

- اسمع يا شيخ يا مخبول. اذهب وابحث عن السمكة الذهبية وقل لها إن زوجتي ملت من عيشة الإمبراطورة الكئيبة هذه، وهي الآن لا تقبل إلا بأن تكون ملكة على البحور، ولها السيادة على المياه في البحار وكل أنواع الأسماك، وكل ما يحيا في البحر.

- أنا لن أذهب، ولن أنفذ طلبك هذا.

- كيف لن تذهب؟

- كما قلت لك، لن أذهب. فالسمكة الذهبية تصرفت معنا بكل ذوق، وكرم، ويجب ألا نضايقها أكثر من ذلك، وأن ما تطلبينه الآن مستحيل، وأنا لن أذهب.

وعندئذ انتفضت المرأة العجوز، وهاجت وبصوت فأرة داسها أحد ما، صرخت في وجهه:

- اذهب حالاً وإلا سآمرهم بقطع رأسك.

مشى الرجل من أمامها حزينًا جدًا ومطأطئ الرأس، وذهب إلى شاطئ البحر، وقال كما يقول في المرات السابقة:

- يا سمكة يا ذهبية. يا سمكة يا ذهبية. تعالي إليّ: ذيلك في الماء ورأسك خارجه.

والسمكة الذهبية لم تظهر من أي جهة. انتظر الشيخ خمس دقائق، عشر دقائق، ربع ساعة، ولم يحدث شيء. نادى للمرة الثانية، ولا نتيجة، ونادى للمرة الثالثة ثم جلس ينتظر.

لكن في هذه المرة بدأ البحر يتحرك، وانقلب لونه. قبل ذلك لونه كان أخضر وبالغ الصفاء، لكنه صار الآن أسود بلون الحبر. الرجل المسكين تولد لديه اعتقاد بأنه السبب في أن كارثة ستقع.

ولكن فجأة ظهرت السمكة بجانب الشاطئ تمامًا، وبصوت عميق وبعيد عما كان من قبل سألته:

- ما الذي تريده يا شيخ؟

- امرأتي أصبحت امرأة مجنونة وهي الآن لا تحب أن تكون ولا حتى إمبراطورة. بل تريد أن تكون ملكة البحور كلها، تسيطر عليها وعلى كل ما يحيا فيها، على الأسماك ولآلئ المحار، وكل الأشياء النادرة حتى غير المعروفة للإنسان. فما رأيك يا سمكة يا ذهبية؟

لكن السمكة الذهبية لم ترد على الشيخ ولو بكلمة واحدة، بل عادت لتغوص في الماء واختفت في عمق البحر.

رجع الرجل إلى القصر، ليرى ما لم تصدقه عيناه: القصر وقد اختفى، وفي مكانه يقف الكوخ القديم، وداخل الكوخ رآها جالسة، امرأته العجوز، وقد غطاها شبح الفقر.

وهكذا عاشا من جديد، كما كانا في الأيام الماضية، والرجل الطيب عاود حياته من أجل الصيد، لكن لم يحدث أن تعلقت بصنارته ولا مرة واحدة.. السمكة الذهبية.

 

 


 



 




غلاف هدية العربي الصغير