المشتل الصغير

المشتل الصغير

ذات مساء من العام الماضي, كنت قد فرغت من استذكار دروسي, وجلست في الشرفة أقرأ قصة شائقة وسط النباتات الجميلة. كان أبي وأمي في صالة الشقة يتشاوران في شئون البيت, وكل منهما يمسك ورقة وقلما. تذكرت أننا في أول الشهر, وأنهما يعدان الميزانية الشهرية للمنزل.

لم أكن أشغل بالي بأمور البيت المالية, فأنا آخذ مصروفي من والدي يوما بيوم, فهو يعطيني ما أريد من نقود أثناء الشهر, لأشتري مجلة أو كتابا أو شجرة جديدة أضعها في الشرفة.

بعد انتهاء المناقشات والمداولات الطويلة, استدعاني أبي, وسلّمني مبلغا من المال. قال إنه مصروفي لهذا الشهر. تملكتني الدهشة, وأخبرتني أمي أنهما اتفقا على إعطائي مصروفي أول كل شهر دفعة واحدة, لأني صرت كبيرا وقادرا على تحمل المسئولية, ونبهتني إلى الاعتدال في الإنفاق دون تبذير أو تقتير, وتوزيع المصروف على أيام الشهر كلها, وادخار قدر منه ينفعني وقت الحاجة.

سألني والدي إن كان المصروف الشهري الذي قدراه لي يناسبني, فأجبت فورا بنعم. ووعدني بزيادته في المستقبل إذا نجحت في هذه التجربة.

أمسيت أفكر بالنقود. لم أستطع قراءة القصة أو النوم, وظللت أخرج الأوراق المالية من جيبي وأعدها مرة بعد مرة, كانت تبدو لي ثروة هائلة.

استولى المال على كل تفكيري, في البيت, والشارع والفصل. كنت شارد العقل أثناء الحصص, حتى أنني لم أفهم شيئا من شرح المدرسين. وعقب انصرافي من المدرسة, أخذت أسير ببطء في الشوارع على غير عادتي, وأشاهد في انبهار ما تعرضه المتاجر من أشياء... ساعات وميداليات.. زجاجات عطور... لعب ودمى... أشرطة كاسيت... قمصان وأحذية.. شيكولاتة... آيس كريم, توقفت دقائق أمام ناد لألعاب الفيديو والبلياردو. كم مررت بهذه الأماكن, غير أني أراها الآن بعيون جديدة. عدد من أصدقائي يترددون إلى هذه النوادي ويستمتعون بألعابها الساحرة, أما أنا فأفضل عليها القراءة والزراعة.

لم أنفق في اليوم الأول أكثر من إنفاقي المعتاد, وإن ارتبكت أفكاري ارتباكا شديدا, كنت حائرا, أحاول المذاكرة فلا أستطيع, كانت كل الأشياء الجميلة التي رأيتها في الحوانيت تطوف بخيالي. بإمكاني شراء الكثير منها, وباستطاعتي الذهاب إلى النادي والاستمتاع بألعابه الرائعة, حذّرتني أمي بلطف من الإسراف, ونصحتني بالادخار, وحدثتني عن المسئولية, أبي يقول إن قرار تحويل مصروفي من يومي إلى شهري تجربة, اختبار, الواجبات والامتحانات والمسئوليات تلاحقني في المدرسة وفي البيت أيضا, كلمات أمي وأبي قيود ثقيلة تكبلني.

مللت المنزل, واستأذنت والدتي لأذاكر مع أحد أصدقائي. ذاكرنا قليلا, وبحت لصديقي برغبتي في الذهاب إلى النادي, وقلت له إن معي نقودا كثيرة, فوافق من فوره, وأمضينا هناك وقتا طويلا في اللعب.

قبل نهاية الأسبوع الأول, كانت نقودي قد نفدت تماما, ما كان يجب أن أصرفه في ثلاثين يوما أنفقته في بضعة أيام. أفرطت كثيرا في شراء المأكولات والمشروبات وشرائط الكاسيت الصاخبة, وأسرفت في اللعب إسرافا شديدا, ونسيت نصائح أبويّ. لجأت إلى الاقتراض من بعض أصدقائي مختلقا الأسباب والذرائع لأثير عطفهم, وأنا أشعر بالخجل الشديد. وصرت مدينا للمرة الأولى في حياتي. ووعدتهم بتسديد نقودهم في أول الشهر, ولم أكن وحدي من ينتظر قدومه في لهفة, هم كذلك كانوا ينتظرون... أصدقائي الدائنون. وبمجرد أن تسلمت مصروفي الشهري, رددت إليهم نقودهم, ومرة أخرى ضعفت إرادتي أمام رغباتي, وجعلت أبدد ما تبقى في الأكل واللعب.

وتتابعت الأحداث المؤسفة, أعلنت المدرسة عن رحلة إلى المتحف الزراعي وحديقة الحيوان, عجزت عن الاشتراك فيها, فحزنت كثيرا, وظهرت نتيجة امتحان الشهر, وسُجلت بشهادتي أقل درجات حصلت عليها طوال سنوات دراستي, كانت مفاجأة للجميع, فقد كنت دائما من المتفوقين, وأردت زيارة ابن خالتي الذي أجريت له عملية جراحية, وتقديم هدية له بمناسبة شفائه. ولكن من أين لي بثمنها? كان عليّ أن أبوح لأمي بكل شيء, استجمعت شجاعي, واعترفت لها بالحقيقة, لم تلمني أو تعاتبني, أحسست من نظراتها أنها كانت تعرف ما فعلت وتنتظر مني أن أبادئها بطلب المساعدة, رفضت بإصرار أن تعطيني أي نقود ولو على سبيل القرض. وما حدث من أمي تكرر من أبي, كأنه كان يدري هو أيضا بما كان مني. وفي هذا اليوم أحضرت أمي الهدية بنفسها, وقدمناها إلى ابن خالتي في المستشفى باسم أفراد الأسرة جميعا.

عانيت من نقص النقود بقية الشهر, وكنت أشعر بالندم الشديد لإخفاقي في تحمل المسئولية, وانتظرت في قلق ما سيقرره أبواي بشأني حين يجتمعان لإعداد الميزانية, أتراهما فقدا الثقة بي? هل سينقصان المصروف أم سيعودان بي إلى نظام المصروف اليومي?

وكانت المفاجأة في اليوم الأول من الشهر, دعاني والداي إلى مائدة الحوار, فجلست متوجسا. قالت أمي: البيت يشبه في شئونه المالية شركة صغيرة, يديرها الزوج وتعاونه زوجته, ويجب أن يشاركهما الأبناء, لهذا رأينا أن ندعوك لتبادلنا الرأي ونحن نخطط لميزانية هذا الشهر.

وأخبرنا أبي أنه وجد عملا إضافيا في المساء سيزيد دخلنا في الشهور المقبلة.

بدأ بعد ذلك الحوار حول ميزانية المنزل, فتحدث أبي عن مجموع موارد الأسرة من راتبه الشهري والمكافأة التي نالها من عمله, مضافا إليهما نصيبه السنوي من بيع محصول أرض زراعية صغيرة ورثها عن جدي. وراحت والدتي تحدد نفقات المنزل الثابتة كإيجار الشقة, وحساب الكهرباء والمياه, ومصروفي الشهري, وتكاليف الطعام والشراب والدواء, والمصروفات الجديدة كفاتورة التليفون. وقسط مدرستي الأخير وملابس الشتاء.

بدأت الحسابات, ووجدتني أحس بخطورة الأمر وأشفق على أبي وأمي وهما يحاولان وضع الميزانية. ويجاهدان ليوفقا ما بين الإيرادات والمصروفات. خرجت عن صمتي وشاركتهما المناقشة. كانت مصروفات البيت لهذا الشهر تزيد عن الإيرادات, فعرضت عليهما أن يخفضا مصروفي الشهري, فرفضا ذلك, ولاقى اقتراحي بتأجيل شراء ملابس جديدة للشتاء قبولا من كليهما.

مضيت إلى حجرتي بعد انتهاء تلك المناقشات المضنية, وشرعت في إعداد ميزانيتي الخاصة, حسبت احتياجاتي الضرورية على مدار الشهر بالقلم والورقة. ووزعت مصروفي عليها, وأبقيت جزءا أدخره لأقيم به مشروعا صغيرا في إجازة الصيف, يزيد من دخل الأسرة, وعزمت على الاجتهاد في دراستي, والنجاح بتفوق كالأعوام السابقة.

حققت في نهاية العام الدراسي ما أصبو إليه من تفوق, وجلست ذات يوم في الشرفة أفكر في مشروع مناسب. نظرت إلى أصص الزهور وأشجار الزينة من حولي, وخطرت لي فكرة. أن لي شغفا بالزراعة وخبرة في تربية النباتات, فلماذا لا أقيم مشتلا صغيرا أبيع فيه الزهور وشتلات الأشجار? كل ما أحتاج إليه هو قطعة أرض صغيرة. تذكرت أن هناك مساحة خالية من الأرض أمام منزل جارة لنا تربطها بأمي صداقة طيبة, شرحت لها مشروعي, فسمحت لي باستخدام الأرض طوال شهور الإجازة دون مقابل.

اشتريت الأصص, وزرعت فيها الورد والياسمين والفــل والريحـــان وشجيرات الزينة, وشجعني أصدقائي وجيراني في البدايــة بالشـــراء مني. وذاعت شهــرة المشتل بمرور الأيام, وأقبل المشترون من حينا والأحياء المجاورة, وأخذت أرباحي تزيد يوما بعد يوم.

جاءتني فكرة جديدة, فأحضرت ما عندي من مجلات وكتب قديمة, وعرضتها في المشتل, ليستعيرها من يريد ويستمتع بقراءتها لقاء قروش قليلة. نجحت الفكرة, وكان يحلو للبعض قراءة الكتب وسط الأشجار والزهور.

قبل بدء الدراسة, جلسنا لإعداد الميزانية, طلبت إلى أبي وأمي أن يطرحا من جملة نفقات المنزل مصروفات المدرسة لأني دفعتها من نقودي الخاصة. حدثتهما أيضا عن مشروعاتي للإجازة الصيفية التالية بإذن الله, وتفكيري في بيع الجرائد والمجلات وبعض الحلوى والمشروبات إلى جانب الزهور والنباتات. تبادل الاثنان نظرات الدهشة وابتسمت أمي وصاحت: نحن نفكر لشهر واحد والولد يفكر لسنة قادمة!!

 


 

حسن صبري