الكتكوت شارد.. خديجة مصطفى الأطرش

الكتكوت شارد.. خديجة مصطفى الأطرش

رسوم : ريما كوسا

كم كان مشهدُ الكتاكيت جميلاً وهي تفقِسُ وتخرج من البيضة.

وكم كانت فرحة الأم (بطة) عظيمة بصغارها، وكم ابتهج جميع من في المزرعة بمولدهم، فالكلب (نبّاح) أخذ يقفز ويغني هو وجروه (همّامّ) فرحًا بهم، كما أخذت العنزة ترقص مع النعجة على غناء أخذت تخور (الخوار: صوت البقرة) به البقرة.

أما الكتاكيت فقد أدهشتهم هذه الضوضاء، ولكن ما لبثوا أن ألفوها، وأخذوا يتقافزون هنا وهناك فرحين بنعمة الحياة التي بدأوا يتذوقونها، إلا كتكوتًا واحدًا بقي ملتصقًا بالقفة (وعاء من القش) التي كانت تحتضن البيض. حاولت الأم (بطة) أن تجعل كتكوتها الصغير يمرح كإخوته، ولكنها فشلت، وظل الكتكوت ملتصقًا بالقفة فتركته.

بعد مدة انتهت الأم (بطة) من تلقين كتاكيتها كل ما يحتاجون إليه من معلومات لكي يستطيعوا المحافظة على حياتهم، بل والتمتع بها.

ولكن الكتكوت الذي تمسك بالقفة كان دائم الشرود، فقد كان عندما تأتي أمه على ذكر الثعلب أو الذئب، يفكر بهما، ويبكي لأنهما قد يأكلانه، ولذلك لم يكن يسمع ما تقوله الأم بعد ذلك عن الوسائل التي تجعله يتغلب عليهما، ويضللهما فينجو. كما كان يفكر في صعوبة النزول إلى الماء، فلا يستمع إلى ما قالته أمه عن جسمه المهيأ لكي يطفو على وجه الماء، ولم يستمع أيضًا إلى الشرح الذي كانت تقدمه الأم للحركات التي عليه أن يقوم بها، ليطفو جسمه فوق الماء بسهولة.

وهكذا انتهت الدروس كلها دون أن يستفيد الكتكوت منها شيئًا، سوى الخوف واليأس.

أخيرًا جاء وقت التطبيق، والدرس العملي.

اصطحبت البطة كتاكيتها إلى البحيرة لكي يبدأوا دروس السباحة.

في الطريق التقوا بالجرو الصغير (همام)، وكان يتدرب على الإمساك بالأعداء. فقد وضع يقطينةً مدورة، وأخذ ينقض عليها مرات ومرات دون كلل أو ملل.

كانت الكتاكيت تراقبه منذ أقبلت إلى الحقل، وحتى وصلت إلى البحيرة.

عبثًا حاولت الأم (بطة) إقناع كتكوتها الخائف دائمًا، والذي أطلقوا عليه اسم (شارد) بالنزول إلى الماء، فقد تساقطت دموعه، وظل يصرخ: سأغرق إن نزلت إلى الماء.

تركته أمه على حافة البحيرة، ونزلت مع إخوته إلى الماء، آملة أن يتشجع إن رأى إخوته يسبحون.

أخذ الكتاكيت الصغار يطبقون كل ما علمتهم إياه أمهم من حركات، وكم فرحوا وهم يطفُون فوق الماء، فأخذوا يعومون ويتضاحكون بمرح شديد. ثم أخذوا يدفعون بمناقيرهم إلى الماء.

فاصطاد أحدهم سمكة أكلها بتلذذ، أما البطوط شارد، فكان يتأملهم بحسرة وحزن، ثم أخذ يبكي، وعندما خرج إخوته من الماء، سأل أحدهم: كيف استطعت أن تتقن السباحة بهذه السرعة؟

رد عليه أخوه: لقد دعوت الله سبحانه وتعالى ...

وأكمل الكتكوت كلامه، ولكن (شارد) كعادته لم يستمع إلى البقية بل أخذ يفكر بالدعاء فقط وعندما كان أخوه يقول: ثم طبقت كل ما علمتني أمي إياه.

في المساء، عاد الجميع إلى المزرعة، وكانوا يشعرون بالشبع والمتعة إلا (شارد) فقد كان يعاني من الجوع والإحباط.

عندما نام الجميع، أخذ شارد يدعو الله بحرقة، ودموعه تسيل على خديه، لكي يرزقه الله بطعام يسد رمقه.

في اليوم الثاني، أيضًا بدأ الصغار نهارهم بالرحلة إلى البحيرة، تتقدمهم أمهم.

انطلق الجميع بسعادة ونشاط، إلا (شارد) كان يمشي بتكاسل. في الطريق كان الجرو (همّام) يتدرب مع اليقطينة بهمة ونشاط، لدرجة أنه لم يتوقف ليرد تحية الكتاكيت وأمهم، بل رد بإيماءة من رأسه فقط، وهو ينقضُّ ليمسك باليقطينة.

عند البحيرة، أيضًا رفض الكتكوت (شارد) النزول إلى الماء، أما باقي الكتاكيت فلم ينتظروا أمهم لتدفعهم إلى الماء، بل تسابقوا إليه، وقفزوا فرحين، لأنهم عرفوا كم هو ممتع أن تطفو أجسادهم الصغيرة فوق المياه المنعشة، وكم هو رائع دفع الرءوس تحت الماء، ورؤية ذلك العالم المختبئ هناك، ثم اصطياد ما يأكلونه بأنفسهم.

أما (شارد) فبقي على ضفة البحيرة يبكي بحرقة، ويدعو الله ليجعله يتقن السباحة مثل إخوته.

بعد أيام مرت مثل اليومين السابقين، كبر الكتاكيت قليلاً، إلا (شارد) فقد أصبح هزيلاً جدًا من شدة الجوع، ولكنه ظل يدعو الله بقلب حزين، وبصدق نية ليجعله يتقن السباحة، فيمرح ويأكل مثل إخوته.

بعد أيام، وفي وقت مبكّر، أقبل (همام) وهو يلهث قاصدًا البحيرة ليستحم. فرأى (شارد) وهو يبكي ويدعو الله بحرارة، توقف (شارد) عن الدعاء، ومسح دموعه، وسأل (همام) بخوف:

- لماذا تركض هكذا؟

رد (همام) بفرح عظيم وحماس: تصور يا (شارد) لقد أتقنت فن الهجوم الذي تدربت عليه لمدة شهر كامل. تصور! اليوم أتقنته.

نظر (شارد) بدهشة إلى (همام) وقال: شهر كامل!!! أليس كثيرًا؟ رد (همام) بحرج: إنه كثير فعلاً. فصديقي الجرو (نطّاط) أتقن الهجوم بأسبوعين فقط. فالله سبحانه وتعالى جعل لكل مخلوق طاقةً محددةً لإتقان الأعمال. ولكن زيادة التدريب تعوض عن الطاقة الناقصة، ثم أضاف بفخر: وأنا الآن أتقن هذا الفن مثل (نطاط) تمامًا. ولكن قل لي: لماذا أنت هنا في هذا الوقت المبكر؟ ولماذا مازلت صغيرًا، ولم تكبر كإخوتك؟

عاد الكتكوت (شارد) إلى البكاء وقال: منذ جئت إلى هذه الحياة وأنا أدعو الله لكي يجعلني أتقن السباحة، وأن يعطيني الله ما آكله.

وهأنا كما تراني، مازلت أواظب على الدعاء.

نظر الجرو (همام) إلى (شارد) بدهشة وقال: ولم تنزل إلى الماء أبدًا؟

رد (شارد): وكيف أنزل إلى الماء ولمْ أتقنْ السباحة بعد؟!

ضحك (همام) ساخرًا وقال: وكيف ستتعلم السباحة وأنت لم تحاول بعد يا شاطر؟

ثم تركه، وهو مايزال يضحك هازئًا، وقفز إلى الماء، وأخذ يلعب بمرح.

فكر (شارد) قليلاً ثم قال: فعلاً كيف سأعرف؟

ثم عاد إلى البكاء والدعاء.

كبر صغار البطة حتى اقترب حجمهم ليماثل حجم أمهم، أما (شارد) فقد ظل صغيرًا، فهو لا يأكل سوى بضع دودات يجدها على شاطئ البحيرة.

وفي أحد الأيام، وكان (شارد) كعادته يدعو الله بعد أن رفض النزول إلى الماء، دار كتكوتان من خلفه، ثم دفعاه إلى الماء. أخذ (شارد) يصرخ مستغيثًا، وكاد يغرق، ولكنه وجد أمه تسنده ليأخذ الوضعية الصحيحة للسباحة، وهي تبتسم له بثقة وتقول: ثق بأنك تستطيع، لا تخف، مد رجلك اليمنى إلى الأمام، وافتح أصابعها، ثم مد اليسرى، نعم هكذا. أرأيت كم السباحة سهلة؟

فرح (شارد) كثيرًا عندما رأى أنه ثابت فوق الماء، ثم مدت الأم منقارها إلى الماء واصطادت ضفدعة صغيرة، وأكلتها بتلذذ، ضحك شارد، وفعل مثل أمه، فاصطاد ضفدعة صغيرة، ولكن ما إن أخرج منقاره من الماء حتى قفزت وهربت.

ضحك (شارد) من نفسه، وضحك الجميع، أمه وإخوته الذين تحلقوا حوله سعداء بانضمامه إليهم أخيرًا. ولكن (شارد) الذي بدأ يثق بنفسه، أعاد الكرّة والتقط سمكة صغيرة. في هذه المرة، استطاع دفعها إلى داخل فمه عندما أسرع أكثر من المرة السابقة، فنجحت المحاولة.

صفق الإخوة جميعًا بأجنحتهم لشارد، وأمضوا بقية اليوم في مرح وسعادة.

تعلم (شارد) أن للكلام تتمة، وقد تكون الفائدة فيها. لذلك لم يعد يشْرُد بعد أن يستمع إلى بداية الكلام، بل صار يستمع حتى آخر كلمة، ثم يفكر بكل ما سمع.

ولذلك أصبح من أبطال سباق السباحة والصيد في بحيرة المزرعة.

 


 

خديجة مصطفى الأطرش