المتحف الزراعي.. إكسير الحياة.. خالد سليمان

المتحف الزراعي.. إكسير الحياة.. خالد سليمان

- صديق العربي الصغير يصطحبكم اليوم إلى زيارة المتحف الذي كان وقت إنشائه الأول من نوعه في الشرق الأوسط والعالم العربي...، إنه المتحف الزراعي بمصر الذي يقع في حي الدقي بمحافظة الجيزة...، هذا المتحف الساحر الذي يختلط فيه التاريخ والجغرافيا بمفردات الحياة من أدوات ونباتات وليس انتهاء بالبشر والحيوانات.. لكن يبقى أهم تلك الأشياء ألا وهو عرق الفلاح الذي يمزج كل تلك الأشياء ليروي بها الأرض الطيبة فينبت منها إكسير الحياة الحقيقي «الزرع» الذي يبقى دليلا على انبعاث الحياة في الأرض الميتة... وحتى لا يلتبس عليكم الأمر أو يختلط أصدقائي الصغار فإن تعبير «إكسير الحياة» الذي يبقى دائما، شيء أسطوري أو تعبير مجازي يعني الشباب الدائم والمتجدد الخلود، وبما أنه لا باقي إلا وجه الله تعالى فيمكننا القول إن سر الشباب الدائم والأبدية مجرد تعبير مجازي يخص تلك الحياة الأرضية الفانية ويظل سر تلك الحياة المياه والزرع الذي نقتات به مع سائر الكائنات الحية ولا يمكن الحياة من دونه انه الغذاء.

- والمتحف الزراعي يعود تاريخ إنشائه إلى الثلث الأول من القرن الماضي، أنشئ سنة 1930 في عهد ملك مصر آنذاك الملك «فؤاد» ثم أضيفت إليه بعد ذلك أقسام جديدة في عهود أخرى تالية وكان آخر تلك الإضافات في عهد الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» الذي أمر بإضافة أقسام مهمة وتطوير المكان تطويراً شاملاً.

- وحين ندخل أصدقائي الأعزاء إلى أول سلسلة المباني الضخمة التي تميز المكان نجد في الطابق الأرضي في أول هذه البنايات مجسمات خشبية كبيرة ودقيقة الصنع لأهم وأكبر المشروعات المائية التي تتحكم في مياه نهر النيل العظيم خلال القرنين الماضيين، منها على سبيل المثال مجسم «خزان أسوان» وآخر لقناطر «إسنا» بالإضافة لنموذجين دقيقين لقناطر «نجع حمادي» والقناطر «الخيرية»، ثم ننتقل إلى مجسمات أفقية وخرائط جدارية بالغة الروعة والضخامة توضح كميات المحاصيل التي تزرع في مصر وأهمها وتوزيعها الإقليمي وأهم ما يميز كل أقليم زراعي عن الآخر، بعد ذلك ندخل إلى أهم أقسام المتحف الذي يوضح بواسطة التماثيل الخشبية والشمعية حياة ذلك الإنسان العظيم أول من روّض مياه النيل وعلّم البشرية كلها فنون الزراعة والري إنه الفلاح المصري أول فلاح في التاريخ الإنساني، نجد كل تفاصيل حياة هؤلاء الفلاحين.. بيوتهم، مساجدهم، الصناعات التي ترتبط بالحياة الزراعية، أعراسهم ووسائل الترفيه لديهم فضلاً عن الأِشياء التي توضح شكل العلاقات الإنسانية بينهم «العطف على الصغار واحترام الكبار»، الحلي والأزياء المختلفة التي توضح خصوصية كل إقليم وسماته.

- وفي الطابق العلوي نشاهد معاً أدوات الزراعة والصيد التي استخدمها الإنسان المصري منذ فجر التاريخ، والطيور والحيوانات التي ارتبطت منذ القدم بالبيئة في مصر «كفرس النهر» أو «السيد قشطة»، و«تماسيح النيل»، والطيور الجارحة «كالصقور والنسور والعقبان والحدأة والغربان»، والطيور صديقة الفلاح التي تساعده في مكافحة الآفات الزراعية «كالهدهد وأبو قردان وأبو فصاد» فضلاً عن أنواع من الطيور التي تهاجر إلى مصر في فصل الشتاء «كالبشاروش والقمري والسمان والحبارى والبط والأوز» و«البجع الكبير»، كما نجد أنواعا من الطيور الداجنة والحيوانات التي يستخدمها الفلاحون «كالخيل والجاموس والبقر والثيران والحمير والجمال»، وأنواعاً مختلفة من «الأغنام»، ارتبطت كل هذه الكائنات بالبيئة المصرية في القرى والبوادي، بالزراعات التي تعتمد على الري الدائم وزراعات الصحارى التي تعتمد على الأمطار الموسمية، ونطالع في الفتارين الزجاجية أنواعاً بديعة من الفراشات المحنطة أيضاً، وفي هذا القسم الذي نطالع فيه كل تلك الطيور والحيوانات المحنطة نستمتع برؤية الكائنات النادرة التي تميز البيئة المصرية المتنوعة بين ريف وساحل وصحراوات عامرة بالواحات الساحرة .... نشاهد الغزال المصري البالغ الرقة والجمال، والثعلب المصري الأحمر والذئاب،ثم ذلك الثعلب المصري الأبيض «الفينيك» البالغ الصغر والذي تميزه عيناه الياقوتيتان الماكرتان وأذناه الكبيرتان وذيله الطريف الشكل.

- وفي البنايات الضخمة المجاورة نتابع تفاصيل أكثر عن الزراعة والري والمحاصيل والأدوات المستخدمة في تدرج وتسلسل تاريخي يصل بنا إلى العصر الحالي كما لو كان شرحاً تفصيليا يراعي التسلسل الزمني لرحلة الحضارة المصرية.

- أما أحدث هذه البنايات نسبياً فهو «البهو العربي» أو «المبنى السوري» وهو يحتوي على تفاصيل مماثلة لما سبق وبيناه لكم أيها الأصدقاء ولكن في «الجمهورية السورية» التي كانت تسمى وقتئذ «الإقليم السوري» أو «الإقليم الشمالي» في وقت الوحدة بين «مصر وسورية» والتي عرفت باسم «الجمهورية العربية المتحدة».

- ومن أهم الشخصيات التي كانت شاهدة على تطوير هذا المتحف والإضافات التي تمت فيه وقامت بافتتاح أجزاء مهمة من المتحف المغفور لهما جلالة الملك «عبد العزيز آل سعود» «مؤسس المملكة المملكة العربية السعودية»، وابنه «الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود» ومازالت اللوحات الرخامية التذكارية تحمل اسميهما إلى اليوم.

- يبقى أصدقائي الصغار أن تعرفوا أن أهم الشهور في حياة الفلاح المصري والتي تفوق في أهميتها الشهور الميلادية لدينا... الشهور العربية لأنها ترتبط لديه بالحج ورمضان وسائر المناسبات الدينية...، والشهور القبطية وهي بالمناسبة لا تعني ديانة كما يظن البعض إنما تعني «الشهور المصرية» فكلمة «قبطي» كلمة مشتقة من اليونانية واللغات القديمة تعني «مصري»..، وسنجد دائماً في كتب التراث كلمة «القباطي» وهي أثواب من نسيج معين كانت تصنع في مصر ..

- هذه الشهور «القبطية» هي التي يعتمد عليها الفلاح المصري في الزراعة ومواسمها من حرث وري وبذر وحصاد..، هذه الشهور تبدأ بشهر «توت» وترتبط بأمثال عامية عن الطقس والزراعة والحياة اليومية، فيقولون مثلا من شهر «كيهك» (كياك صباحك مساك تقوم من نومك تحضر عشاك) كناية عن قصر النهار في ذلك الوقت من السنة، وكناية عن شدة البرد في شهر «طوبة» يقولون (طوبة تخلي الصبية كركوبة) أي تحول الصبية لعجوز، وفي شهر «برمهات» يكون الحصاد فيقولون (برمهات روح الغيط وهات) للتعبير عن موسم جني الثمار من الحقول ..، ولكل شهر من هذه الشهور المثل الخاص به .. وعدتها وترتيبها كما يلي، توت - بابة - هاتور- كيهك - طوبة - أمشير - برمهات - برمودة- بشنس- بؤونة - أبيب - مسرى، وهي كما ترون أصدقائي اثنا عشر شهرا، ويستخدمها أيضاً المسيحيون في مصر في التقويم الخاص بهم الذي يسمى تقويم الشهداء الذي ارتبط بشهداء الاضطهاد الروماني للديانة المسيحية في مصر ويوافق الآن سنة 1723، والذي استمر من عصر الرومان الوثني ولم يتوقف حتى بعد اعتناق الامبراطورية الرومانية النصرانية.فقط انتهى هذا الاضطهاد الديني إلى غير رجعة مع الفتح الإسلامي لمصر ليعم نور الإسلام مصر وشعبها من نصارى ومسلمين لتستمر مسيرة الحضارة التي قامت على سواعد أولئك الفلاحين الذين روضوا النهر والأرض ليزرعوا العرق ويحصدوا الخير الذي يحكي لنا تاريخه وتاريخ «فجر الضمير» أي فجر الحضارة الإنسانية معه للمتحف الزراعي الذي أدعوكم للتعرف عليه.

 


 

خالد سليمان

 




في الأعلى الخبز الريفي. تقوم به النساء أمام فرن يعمل بالحطب، حيث تحول النار العجين إلى رغيف شهي





نظرة داخل صندوق الدنيا تساوي رحلة رائعة





الخبز الريفي. تقوم به النساء أمام فرن يعمل بالحطب، حيث تحول النار العجين إلى رغيف شهي





صانعا السلال والجرار، من الحرفيين الذين يقدمون أدوات مفيدة لأهالي الريف





صانعا السلال والجرار، من الحرفيين الذين يقدمون أدوات مفيدة لأهالي الريف