من يكسو بيت الله الحرام
من يكسو بيت الله الحرام
دعوني أولا أعرفكم بنفسي, أنا صديقكم عبد الله, سعودي من مكة المكرمة, البلد الذي يهفو إليه كل مسلم, أنتم تعرفون الكثير عن مدينتي, فهي البلد الذي ولد فيه رسول الله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام, وفيها قضى طفولته وشبابه و أعلن دعوته, ومنها هاجر وإليها عاد, كما أنه يوجد في قلبها بيت الله العتيق أو الكعبة المشرفة التي بناها سيدنا إبراهيم والتي يطوف حولها المسلمون منذ ذلك الحين وإلى أبد الزمان. ولعلكم لاحظتم الأستار السوداء التي تكسو الكعبة وتعطيها شخصيتها المميزة, إن لهذه الأستار قصصا طريفة أريدكم أن تعرفوها لأنها جزء من تاريخ مدينتي مكة, ومن تاريخ الإسلام, دعوني أبدأ معكم من البداية. الملك العاجز كان الملك تبع الحميري قادما من اليمن وخلفه جيش ضخم, لم يكن أمامه إلا هدف واحد هو هدم الكعبة, كان أقوى ملوك اليمن, يملك جيشا ضخما, ورغم ذلك فقد كان حانقا لأن بقية القبائل العربية لا تعترف بسلطته, وأن القوافل القادمة شمالا من الشام, والقادمة شرقا من الهند, لا تتجه إليه مباشرة, ولكنها تتجه إلى مكة أولا, يجذبهم جميعا بيت الله الحرام. كان كملك يأتي دائما في المرتبة الثانية, وفكر أنه لو هدم ذلك البيت العتيق فلن تجد القوافل مكانا تتجه إليه سوى بلاده, لذلك جهز هذا الجيش, وقام بهذه الرحلة. بعد أيام طويلة من السير, وصل الملك وجيشه إلى ممر ناعم من الرمل الأصفر, وظهر أمامه البيت العتيق, كان مبني من أحجار الجبال التي تحيط به, عاريا لا يكسوه شيء, وقبل أن يعطي الملك إشارة الهجوم بدأ الرمل يغوص من تحت قدميه, ووجد نفسه عاجزا عن الحركة وعن الكلام, توقف الجيش مذعورا, أدرك الجنود فجأة أن هناك قوى خفية تحمي هذا البيت الحجري, وان ما حدث للملك لم يكن بمحض مصادفة, بدأوا جميعا في التراجع, هربوا إلى الصحراء حتى لا يصيبهم ما أصاب ملكهم, لم يبق مع الملك إلا حفنة صغيرة من الاتباع, يحاولون عبثا مساعدته على التحرك, ولكن الملك ظل أمام البيت, يراه من بعيد وهو عاجز عن الوصول إليه. مرت الأيام وحالة الملك تسوء, وأحس بالفعل أن هناك لعنة قد حلت عليه ولن يستطيع الفكاك منها, وأخيرا تقدم إليه أحد رعاة الغنم, كان بدويا فقيرا ولكنه كان يدرك قدر هذا البيت, قال له: ـ أيها الملك المعظم. هذا بيت الله, بناه نبي الله, وقد أسأت إليه, ولذلك يجب أن تقدم اعتذارك وأن تبعث إليه بترضية مناسبة. وفكر الملك كثيرا, ولم يجد أفضل هدية من أن يقوم بكسوة هذه الأحجار العارية, وهكذا أمر أتباعه فجمعوا كل ما معهم من أكسية وأقمشة حريرية وقاموا بكسوة البيت والطواف حوله, ولدهشة الجميع نفض الملك الرمل من على قدميه وبدأ في التحرك, لقد زالت اللعنة عنه, ذهب إلى الكعبة وتعلق في الأستار طالبا الرحمة والغفران,ثم رحل سريعا إلى بلاده. تكريم البيت من هذه اللحظة أدرك العرب أهمية تكريم هذا البيت العتيق وجعله جميلا في عيون كل من يراه, بل أن هذه الكسوة قد تحولت لتصبح واحدة من الواجبات الدينية, وقد كسي البيت بكل أنواع الأقمشة التي كانت منتشرة في هذا الزمن القديم, الخصف والوصائل وهي أقمشة مخططة كانت تصنع في اليمن, والنمارق التي تصنع في العراق والأنماط وهي ثياب من الكتان التي تصنع في مصر, وتنافس أشراف العرب على كسوة البيت, ويقال إن أبا ربيعة المخزومي وقد كان واحدا من أثرياء مكة قال لقومه من قريش: ـ أنا أكسو الكعبة وحدي سنة, وجميع قريش تكسوها في السنة التالية. وقد وافقت قريش على ذلك, وقد أطلقت عليه لقب العدل, لأنه بفعله هذا كان يعادلها جميعا. وعندما بُعث رسول الله عليه الصلاة والسلام برسالته, لم يكن يستطيع أن يكسو الكعبة في البداية, فقد كانت الأصنام تحيط بها من كل جانب, ثم إن قريشا كانت تناصبه العداء حتى أنها اضطرته للهجرة من مكة, ولم يتسن له ذلك إلا بعد فتح مكة, فقد أرادت امرأة عجوز أن تقوم بتبخير الكعبة, وبدلا من ذلك انبعث الشرر من المبخرة التي تحملها واشتعلت النيران في الأستار حتى احترقت كلها, وقام الرسول الكريم بوضع كسوة جديدة على الكعبة. وبعد ذلك توالت الكسوة التي يقدمها خلفاء المسلمين وأمراؤهم إلى الكعبة, ولم تكن الكسوة القديمة تزال عندما توضع الجديدة, ولكن كل واحدة كانت توضع فوق الأخرى حتى أوشك البيت أن يتداعى, وعندما ذهب الخليفة العباسي (المهدي) للحج اشتكوا له من ذلك فأمر أن تزال كل الكسوة القديمة وألا يبقى على الكعبة إلا واحدة فقط, ثم تولت مصر صنع الكسوة بعد ذلك وخصصت لها أفضل الخياطين والمطرزين والخطاطين, ولأن راية الرسول عليه الصلاة والسلام كانت سوداء فقد تم اختيار اللون الأسود لونا للكعبة, بينما تم تطريز الآيات القرآنية بخيوط من الذهب, وتحولت الكسوة لتصبح آية من آيات الفن الإسلامي, وكانت تخرج من مصر في موكب فخم كل عام يطلق عليه موكب المحمل, وقد استمر هذا الأمر حتى بداية الستينات من القرن الماضي عندما أخذت المملكة العربية السعودية على عاتقها مسئولية صنع الكسوة. بيت الكسوة والآن تعالوا معي لنقوم بزيارة ذلك المصنع الموجود في منطقة (أم الجود) وهي إحدى ضواحي مكة والتي تتم فيه صناعة الكسوة, إنه مصنع صغير ولكنه مليء بالعمال المهرة الذين يقومون بنسج وتطريز هذه الأقمشة الحريرية الرقيقة, وتاريخ المصنع قديم فقد أنشأه المغفور له الملك عبد العزيز بن سعود مؤسس المملكة. وظل يتطور منذ الحين حتى استطاع القيام بعمل الكسوة كاملة, وهو يمزج بين الأساليب القديمة والحديثة في نسيج الكسوة, ومن المدهش أن ترى الأنوال الخشبية التقليدية بجانب الماكينات الحديثة للنسيج. هل تأملتم هذا النسيج الأسود الذي يكسو جسد الكعبة, لو اقتربتم منه سوف تجدون منقوشا عليه عبارات (يا الله, محمد رسول الله, سبحان الله وبحمد الله), ويبلغ ارتفاع هذا الثوب الأسود أربعة عشر مترا, ويتم نسجه بدقة حتى تظهر النقوش فيه, ويوجد على كل نول خشبي واحد يقوم بالنسيج, وواحد آخر يقوم بتوجيهه حتى تكون النقوش واضحة. وفي قسم آخر سوف نرى الذين يقومون بتطريز الحزام الذي يوجد في الثلث الأعلى من الكعبة, وهو عبارة عن آيات قرآنية مأخوذة من سورة الحج ومنسوجة بخيوط الذهب ومكتوبة بالخط الثلث الجميل, أما الستارة التي تغطي باب الكعبة فهي دائما ما تكون آية في الفن والجمال, وتتكون من خمس قطع, يتم تطريز كل قطعة على حدة ثم تجمع معا, وهي في النهاية تكون لوحة من الخط العربي والزخارف الإسلامية, وقد شهد عام 1403هـ الموافق عام 1980م مناسبة خاصة لدار صنع الكسوة, فقد قامت المملكة العربية السعودية بإهداء ستارة الكعبة المشرفة إلى مقر الأمم المتحدة كهدية نيابة عن العالم الإسلامي, وقد أقيم حفل ضخم بهذه المناسبة وتسلم الأمين العام هذه الهدية حيث وضعت في مكان بارز في مقر المنظمة في نيويورك. ولا يقتصر دور المصنع على إنتاج هذه الكسوة فقط, بل إنه ينتج كسوة أخرى خضراء اللون يتم بها كسوة جدران الكعبة من الداخل, كما يقوم بإنتاج الأستار التي تغطي قبر الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة وغير ذلك من المنتجات التي تحتاج إلى حرفية عالية في التجهيز والتطريز, ويحتوي المصنع على العديد من الأقسام بجانب النسيج منها أقسام التصميم والصباغة والطباعة. في نهاية جولتنا سألنا المشرف على مصنع الكسوة: ـ ولكن ماذا تفعلون في الكسوة القديمة بعد أن ترفعوها من فوق الكعبة? قال الرجل: إنها بالطبع أثمن من أن نلقيها مع المهملات, إضافة إلى الجهد الذي بذل فيها وما تمثله من فن جميل, إننا نقوم بتقسيمها, بحيث تتحول كل قطعة منها إلى لوحة فنية, ونقوم بإهدائها إلى الملوك والرؤساء, كما نهديها إلى المتاحف الإسلامية والعلمية.
|