قصة من فنلندا ثلاثة أنهارمن الدموع

قصة من فنلندا ثلاثة أنهارمن الدموع

ترجمة: خليل كلفت

رسوم: ماهر عبدالقادر

في قديم الزمان, عاشت فتاة رائعة الجمال, مع أمها وأخيها الشاب, في منطقة خصبة وادعة تمضي فيها الحياة بلا صدمات, وكأنها في ربيع دائم. ولم تجلب الثلوج والسماء الرمادية في فصول الشتاء الطويلة أيّ حزن إلى منزلهم الذي نعموا فيه بالسرور. وبدا أن كل شيء سيدوم على تلك الحال إلى نهاية الزمان, غير أنه ذات صباح, جاء خادم يعمل عند جار شهير جدا وغنيّ جدا, وقدّم للأم رسالة تحمل خاتم شمع مدموغا بشعار النبالة.

الأم, التي لم تكن تعرف القراءة, طلبت من ابنها أن يطّلع على الرسالة, وكلما تقدم الصبي في قراءتها رأت الأم أن وجهه يزداد شحوبا, وعندما وصل إلى نهاية الرسالة, مزّق الورقة, وبدا في نظرته غضب شديد وارتجف صوته.

- جارنا عجوز جدا إلى حد أنه لا أحد يعرف عمره بالضبط, وهاهو يتجرّأ على طلب الزواج من أختي! إنه يتصور إذن أن ثروته تعطيه كل الحقوق!

وبعد أن قال هذا, صفق الباب وخرج وانطلق يسير عبر الثلوج لتهدئة غضبه الشديد.

وعندما عاد, وجد أخته تبكي, وسألها, فقالت الفتاة:

- ذهبت أمي لتحمل ردّها إلى جارنا العجوز, فهي تقول إننا فقراء جدا ويجب علي أن أتزوجه.

وصار من الصعب عليها أن تتكلم كثيرا لأن عبرات النحيب تحشرجت في حلقها. وحيث إن أخاها ظل صامتا, أضافت لتُنهي حديثها:

- لا ينبغي أن تستسلم مرة أخرى للغضب, وأرجو منك ألا تقول شيئا لأمنا بعد الآن. أما أنا, فإنني أفضّل أن أموت على أن أعيش مع هذا الرجل.

مرت أيام عدة, وسيطر صمت ثقيل على المنزل الذي كانت الأم تُعدّ فيه لابنتها فستان زفاف, وبانقياد, جرّبت الفتاة الفستان والطرحة, غير أنها, ذات صباح, لم تظهر في وقت طعام الإفطار.

ولأن الثلج سقط في بداية الليل, لم تكن هناك صعوبة في التأكد من أنها غادرت المسكن قبل الفجر. تتبّعوا آثار قدميها, وقال الثلج إن الفتاة كانت تجري, وإنها سقطت, وإنها سارت ثم جرت قبل أن تسقط مرة أخرى. وهكذا تتبعوا آثار قدميها على الثلج حتى شاطئ البحيرة. وهناك, توقفت آثار القدمين لأن الماء يستطيع أن يصون أسرار أولئك الذين يأتون طالبين منه الملاذ.

عندئذ, عادت الأم, مسنودة على ابنها, وجلست أمام مسكنها وراحت تبكي. وذرفت الكثير والكثير من الدموع إلى حدّ أن ثلاثة جداول ماء تكوّنت وأخذت تكبر وسرعان ما صارت ثلاثة أنهار. وجرت جداول الماء الثلاثة هذه إلى البحر, سالكة طرق ثلاثة وديان كانت تفصل بينها تلال مكسوّة بأشجار تغرّد عليها الطيور.

أحسّ الرجل العجوز أيضا بحزن شديد, غير أنه لم ييأس من العثور على خطيبته, ومقتنعا بأن الثراء يمكن أن يحقق كل شيء, أمر بصنع خيط وصنارة لصيد السمك, الخيط من الذهب في طرفه صنارة من الفضة عُلّقت بها ماسة ضخمة, ومزهوّا بنفسه, أبحر ذات مساء على مركب ليصطاد السمك في عرض البحر عند الصخور العالية حيث اختفت الجميلة.

وراح يصطاد حتى الفجر دون أن يحصل على شيء, غير أنه, في اللحظة التي بدا فيها نور السماء ينبلج, جذب من البحر سمكة في منتهى الجمال غير أنها لم تكن تنتمي إلى أيّ نوع معروف. وتأهّب الرجل العجوز لإلقاء غنيمته في حوض السمك في مركبه, عندما انزلقت السمكة من بين يديه وقفزت إلى البحر, وبين موجتين, ظهر رأس السمكة, وانفتح فمها, وارتفع من الموج صوت الفتاة:

- أنت لم تعرفني إذن, أنت لن تأمر بطبخي, أنت لن تأكلني. ومع هذا فأنا تلك التي ادّعيت أنك تحبّها.

لم يأخذ العجوز مرة أخرى خيط وصنارة صيد السمك ولا قاربه. بل حبس نفسه داخل مسكنه مع كنوزه عديمة الجدوى.

أما الأم فلم يرها الناس مرة أخرى, غير أن هناك من يؤكدون أنها تبكي دائما, لأن الأنهار الثلاثة لم تكف مطلقا, منذ قرون, عن الجريان نحو الخليج حيث اختفت ابنتها ذات صباح في الشتاء.

 

 


 

برنار كلافيل