بيتنا الأرض

بيتنا الأرض

المتراس الحي

اضطرب قطيع ثيران المسك, وأخذت خطوات أفراده تتعثر وكل منها يتململ ويكف عن التقدم إلى الأمام, ويبدو كأنه سيدور حول نفسه. سرت في القطيع موجة خوار خافت وأخذت الرءوس ترتفع متشممة الهواء البارد الذي بدأ في الحركة عبر سهول جرينلاند الجليدية. كانت أنوف الثيران تتشمم تباشير رائحة العاصفة القطبية التي ستهب على السهل بعد دقائق. إنها تجربة عصيبة توارثت سرها الثيران التي تستطيع الصمود لدرجات الحرارة شديدة الانخفاض, لكنها ترتعب من تهديد العواصف الجليدية التي تكون برودتها أشد مما تستطيع احتماله الثيران. فراؤها البني السميك الذي يصل عمقه إلى 25 سنتيمترا يجعلها تقاوم البرودة التي تصل إلى 50 درجة مئوية تحت الصفر. لكن العاصفة القطبية تهدد غزارة هذا الفراء عندما تحرّك هذا البرد الساكن وتحوّله إلى سهام ثلجية تخترق جلودها وترشق عيونها وأنوفها فتوشك على التجمد. ولا يكون أمام ثيران المسك إلا الدفاع ذاته الذي تواجه به قطعان الذئاب القطبية عندما تغير عليها هذه الذئاب في جماعات مسعورة.

قادت الثيران الكبيرة القطيع نحو تلة مرتفعة من الأرض ثم أخذت ترتب - بدفعات من رءوسها - أفراد القطيع لتكوين حلقة محكمة تامة الاستدارة. كانت العجول الصغيرة خفيفة الفراء والتي يمكن أن تفتك بها سهام العاصفة الجليدية في مركز الدائرة, وتحيط بها أجسام الثيران الكبيرة التي تتجه رءوسها إلى الخارج. لطالما أتاح هذا لقرون الثيران القوية أن تسدد ضرباتها القاتلة إلى الذئاب المغيرة. لكن ماذا تفعل هذه القرون مع سهام الريح الثلجية?!

تلقت الثيران الكبيرة هجمات العاصفة الجليدية برءوسها فتشققت أخطامها التي يبست وأعتم الصقيع بعض قرنيات العيون. تساقط أكثر من ثور عجوز هدت قواه العاصفة وجمّدت الدماء في عروقه. وكان أفراد القطيع الأصغر سنا يبادرون بالتقدم إلى الأمام ليعيدوا ترميم الدائرة المحكمة كمتراس حربي. أما العجول الصغيرة فقد ظلت في مركز الدائرة محمية بدفء أجساد الأمهات والآباء والإخوة الأكبر من الثيران الشابّة.

مضت العاصفة وسكنت البرودة وأخذت الدائرة تتفكك. انطلقت العجول الصغيرة التي كانت محصورة في المركز تجري فرحة بالحركة بعد السكون, لكنها لم تبتعد عن القطيع الذي بقي كباره واجمين. كانوا ينظرون بحزن إلى أجساد الثيران المسنة التي واجهت العاصفة في مقدمة المتراس الحي بثبات, ودفعت حياتها وهي تفتدي أبناءها والأحفاد.

 


 

محمد المخزنجي