قصر العظم

قصر العظم

حكاية الوالي اللص... وذكريات دمشق

كان طريقي أنا وصغيري خالد إلى قصر العظم مزدحما, فقد سرنا عبر (سوق الحميدية) وسط صراخ الباعة وزحام الزبائن, وفي نهاية السوق كان المسجد الأموي يشمخ بمئذنته, وبمحاذاة جدار المسجد ننعطف يمنة لندخل سوق البذورية الذي تلمؤه روائح التوابل والعطارة والمنتجات السكرية, وبعده مباشرة نجد أنفسنا أمام باب قصر العظم في قلب المدينة القديمة.

الوالي اللص

أقف لحظات أنا وصغيري - صديقكم خالد - لأحدثه عن الوالي العثماني أسعد باشا العظم الذي اقترف ذنبا لا ينساه الدمشقيون, وذلك عندما بنى هذا القصر سنة 1750م, فقد عمد في ذلك الوقت إلى بعض الموالين له والمقربين منه ليفتشوا البيوت الدمشقية والحارات, ويسرقوا منها كل تحفة تقع تحت أعينهم سواء كانت هذه التحفة أثاثا أو حجرا أو حتى أشجارا مثمرة.

يتساءل خالد في دهشة: حتى الأشجار يا والدي يأخذونها?! أقول له: نعم يا بني وكذلك يأخذون برك المياه وأعمدة الرخام وألواح الفسيفساء وغيرها.

لقد حشد هذا الوالي لبناء القصر أموالا طائلة وجمع صناعا مهرة وحرفيين مشهورين, وانتقى له مواد البناء وأثراه بالزخرفة العربية والأجواء المشرقية وتمازجت فيه العناصر المعمارية والفنون الزخرفية تمازجا منسجما موفقا, واجتمعت في أركانه حصيلة ما أبدعته الحضارات التي عرفتها دمشق وزد على ذلك الخضرة والمياه وأشجار السرو الشامخة وشجيرات الليمون والنارنج والكباد وعرائش الورد والياسمين التي لايزال عبيرها يضمخ المكان وشكلها يسر النظر.

القاعة الكبرى

أولى القاعات التي دخلناها في القصر كانت القاعة الكبرى وهي من أجمل قاعات القصر وأرحبها مساحة وحجما وأكثرها زخرفة. في وسطها تعلو الباب لوحة تشيد بخصال صاحب الدار الوالي أسعد باشا العظم, وفيها صفان من النوافد المتناظرة, وقد أحيط باب القاعة بألواح رخامية. وتنقسم القاعة إلى ثلاثة أجنحة صغيرة تتوسطها عتبة رخامية مربعة الشكل, وقد اتخذ الباشا من هذه القاعة مكانا لاستقبال ضيوفه. وتتوزع في خزائن القاعة الأواني الزجاجية والخزفية التزيينية إلى جانب بعض التحف والنفائس الفضية والنحاسية المنزلة أو المرصعة بالمعادن الثمينة. ويتصدر هذه القاعة تمثال للباشا على أريكته ووكيله بجواره مع أحد الفلاحين.

صديقكم خالد يبدي إعجابه بالتماثيل التي ألبست أزياء قديمة تشابه ما كان يلبسه الوالي ووكيله والفلاحون, ويطلب مني أن أصوّره بجانبهم ولكن والقائمين على حراسة المكان يحذروننا من التصوير.

في الكتّاب

من هذه القاعة تحوّلنا إلى قاعة الكتابة والتدريس, وهي تتألف من غرفتين متداخلتين, الخارجية منهما زيّنت جدرانها وسقفها بكسوة خشبية مزخرفة بأشكال نباتية وهندسية متناظرة, وببعض الأبيات الشعرية من قصيدة (البردة) للبوصيري. وأما الغرفة الداخلية فهي فقيرة الزخارف سقفها مكون من عقود خفيفة الانحناء, وهذه القاعة مخصصة لمعروضات تقليدية في مجال الكتابة والتدريس كأقلام القصب والمحابر (الدوايات) المصنوعة من الخزف والنحاس, وقد كتب على بعضها أسماء أصحابها إلى جانب كتابات أخرى ونقوش زخرفية. يسألني خالد وهو يتأمل (شيخ الكتّاب) أو الرجل الذي يعلم الصبية هل تعلمت يا والدي في الكتّاب, وهل كانت عصا شيخ الكتّاب تنال كثيرا من الصغار? نعم لقد تعلمت في كتّاب قريتنا وكم كنت أذرف الدموع خشية التقصير في أي واجب, وكم كنت أخاف من ذلك الرجل الوقور الذي كان يعلمنا ويراقب قراءتنا لآيات الله وبيده عود من شجر الرمان.

طالت وقفتنا في هذه القاعة وأنا أحدث صديقكم عن (شيخ الكتّاب) الذي نراه أمامنا مجسدا بعمامته وجبته ممسكا عصاه الطويلة وبجانبه كرسيه, وقد وضعت عليه كراسات الصبية وأمامه عدد من الصبية بألبستهم التقليدية, الجلابيب أو الدشاديش وعلى أكتافهم علقت محافظهم القماشية وعلى رءوسهم استقرت طرابيشهم الحمراء الصغيرة, فيما انتعلوا القباقيب التي تطقطق على الأرض مع أي حركة. وفي تجسيد آخر للكتّاب القديم يبدو معلم الكتّاب بلباسه التقليدي وأمامه كرسي عليه المصحف وإلى جانبه يقف أحد خريجي الكتاب وقد توج رأسه بإكليل وبغطاء من القماش الدمشقي الثمين.

شعر على حبة قمح

كل قاعة من قاعات القصر التسع عشرة تحكي تقليدا وعرفا اجتماعيا, وزائر القصر لن يخرج منه إلا بمعرفة حقيقية للبيئة الاجتماعية القديمة في دمشق. وبما أننا لن نستطيع الوقوف ووصف كل قاعة على حدة فدعونا نستمتع معا بقاعة الحج وفيها المحمل الشريف, ويقف بجانبه أمير الحج ببذلته الرسمية السوداء المشغولة. وفي الجزء الثاني منها تجسيد لرقص المولوية أو رقصة الدراويش على أنغام الناي وضربات الدف. يسألني خالد: ألا يختل توازنهم حين يدورون مئات الدورات وثيابهم البيضاء تنساب دائرية الشكل حولهم? فأوضح له أن كثرة التدريب وحال العشق الصوفي لديهم تجعل الروح تتسامى والنفس لا تتأثر بدوران الجسد. والشيء الآخر العجيب في هذه القاعة هو حبة القمح الموضوعة تحت عدسة تكبير, وقد كتب على هذه الحبة الصغيرة ستة أبيات من الشعر مديحا لأحد الأمراء العرب, وإلى جانب هذه الحبة نماذج من كتابات دقيقة على الورق أو على القماش, وفي جانب آخر نموذجان لرجل وامرأة بلباس الإحرام لدى تأدية مناسك الحج.

في دنيا القصر

تتعدد قاعات القصر وتكثر غرفه وتتنوع الموضوعات الموزعة في كل منها فننتقل من قاعة السلاح التي تضم نماذج من أسلحة قديمة إلى قاعة المقهى الشعبي وفيها الزبائن والفرقة الموسيقية والحكواتي والمشرف على المقهى. ومن ثم نزور غرفة العروس وغرفة الحماة وقاعة الاستقبال وقاعة الأزياء السورية وقاعة الصناعات النحاسية وقاعة الملك فيصل وقاعة الآلات الموسيقية الشرقية, وقد عرضت فيها الآلات الموسيقية النفخية كالناي والمجوز, والوترية كالعود والقانون إلى جانب أجهزة الجرامافون والاسطوانات السمعية القديمة, وعلى الجدار الغربي اصطفت صور نخبة من أعلام الموسيقى والغناء كأبي خليل القباني الدمشقي, وعلي الدرويش الحلبي الذي اتبع الطريقة المولوية والعازف الماهر عمر البطش وغيرهم. ومن قاعة النسيج التي تبين براعة الدمشقيين في هذه الصناعة التي جابت العالم ومرورا بصناعة الزجاج وما فيها من فن خلاق نصل إلى الحمّام, والحمّام قسم مهم بذاته, ويتألف من ثلاثة أقسام الحمّام البراني (الخارجي), والوسطاني, والجواني (الداخلي). وتبدو وجوه المستحمين وقد صبغت بالحمرة من تأثير فركها بكيس الحمّام والماء والصابون, ومن تأثير البخار. وتظهر طقوس الاستحمام حيث يقوم الصانع (المكيس) بفرك ظهر الزبون بكيس الحمّام الخشن الملمس. وفي زوايا الحمّام تتوزع أحواض الماء وفي خزائنه علقت المناشف والمآزر وغيرها من مستلزمات الاستحمام.

يسألني خالد عن سبب انقراض هذه العادات وكأنه يعتب على من سبقنا وعلينا لأننا لم نحافظ عليها. ولكنني أعترف أن تطور العصر وتوافر أسباب الراحة في المنازل وكثرة وسائل الإعلام كفيلة في هذا الزمن بأن تجعـــل المنزل مملكـة عصريــة لأفراد الأسرة. وبعد أن دخلنــا من باب السلاملك المخصص لاستقبال الضيوف نخرج من باب الحرملك الجزء المخصص لنساء القصر وللحياة الخاصة بالساكنين, ونصل إلى البـاب الكبير حيث تقبـــع الصناديق القديمة التي كانت مخصصة للملابس. وعند الباب تصافح آذاننا أصوات الباعة في البذورية وكأنها تيقظنا من حلم جميل وقصير.

 


 

جمال مشاعل

 




قاعة الحج ومشهد المولوية





القاعة الكبرى.. مشهد أسعد باشا العظم والي دمشق





تصنيع الزجاج التقليدي





حبة قمح مكتوب عليها ستة أبيات من الشعر





قاعة الكتاب





قاعة العروس