قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

كارلو فورلانيني

وصفة... مثيرة للدهشة

رسوم: ممدوح طلعت

(لا حياة دون إصرار)

هكذا ذاع صيت الصغير (كارلو) في المدرسة.

بل هكذا عرفه جميع من أحاطوا به في الحي الفقير, بمدينة (ميلانو) الإيطالية.

إنه يصر على تنفيذ ما يريد, مهما كان الثمن, وعندما سأله أستاذه:

(يشكو زملاؤك من عنادك الدائم, ولا يحبون هذه الصفة فيك).

يومها ابتسم الصغير (كارلو) وقال:

- معذرة يا أستاذي, لست عنيدا, بل أنا مجرد طفل مليء بالإصرار, لا أؤمن بالمصادفة وأجري وراء الشيء الذي أتمنى حدوثه.

وكان هذا هو اليوم الأخير له في المدرسة, قبل أن ترحل أسرته إلى مدينة أخرى, وقبل أن ينتهي اليوم الدراسي, اجتمع الزملاء حوله وراحوا يودّعونه.

إنه (كارلو فورلانيني).

الطفل المليء بالإصرار, الذي ولد في نفس المدينة في شهر يونيو عام 1847م, وغادرها لأول مرة مع أسرته إلى مدينة أخرى, من أجل أن يبدأ حياة جديدة.

وفي مدرسته الجديدة, اكتسب أصدقاء آخرين, وصار له مدرسون جدد, قال أحدهم له:

- يا عزيزي (كارلو)... أنت التلميذ الذي قد يتفوق على أستاذه.

كان الأستاذ قد لاحظ النبوغ المبكر للتلميذ (كارلو) في علوم الرياضيات والفيزياء, وقرر أن يتولى تشجيعه, فهو أيضا يحب هذه العلوم, ويتمنى لو أسهم فيها باكتشافات تفيد البشر.

وفتح الأستاذ أمام تلميذه الكثير من الآفاق في دنيا العلوم.

أحضر له الكتب, والموسوعات, ومنحه (تلسكوبا) هدية ذات يوم, لكن (كارلو) بدا كأنه يعد مفاجأة لأستاذه, حين قال:

- أتمنى لو التحقت بكلية الطب.

يومها, نظر الأستاذ إلى تلميذه, وقال:

- كم أتمنى لو استفدت من نبوغك في الرياضيات وبأن تصير مهندسا.

لكن (كارلو) كان قد أحس بأنه استوعب الكثير من النظريات المعقدة والجديدة في علوم الفيزياء والرياضيات, لذا قرر أن يدرس الطب.

ومرت السنوات في الكلية.

لكن علاقته مع أستاذه القديم لم تنقطع, حتى تخرج (كارلو) في كلية الطب عام 1870, وقرر أن يعود إلى مدينته (ميلانو) بعد أن قال لأمه:

- سأعود إلى مدينتي, كي أخدم الناس هناك.

وعمل عدة سنوات كطبيب عيون في مستشفيات (ميلانو) إلى أن اكتشف أنه يمكن أن يستوعب تخصصا آخر في الطب, فعكف على التخصص في الأمراض الجلدية.

لم يكن (كارلو فورلانيني) شخصا يملؤه الإصرار فقط بل كان كتلة هائلة من التحفز والتحدي, حيث صار يتنقل بين أفرع الطب المختلفة, وذلك من أجل خدمة الناس.

في تلك السنوات, كان مرض السل الرئوي ينتشر بقوة في أنحاء العالم.

إنه مرض لا يعرف الرحمة, ينتقل بين الناس عن طريق العدوى بالتنفس, ويمكن للشخص السليم أن يصاب بالمرض القاتل لمجرد اختلاطه بالشخص المصاب.

وكم تألم الطبيب الشاب, وهو يرى المرض يفتك بالناس من حوله, وأحس بأن (السل) هو خصمه اللدود.

وعرف (كارلو) أن العالم الألماني الشهير روبرت كوخ قد عكف سنوات طويلة من أجل اكتشاف السبب الحقيقي لإصابة الناس بالسل.

وفي يوم من أهم أيام التاريخ الإنساني, أعلن (كوخ) عن اكتشافه للميكروب المسبب لهذا المرض القاتل.

وأقيمت المؤتمرات العلمية تحية للعالم (كوخ).

لكن كانت هناك مشكلة, فالعالم الألماني قد توصل إلى معرفة الميكروب المسبب للمرض فلابد من البحث عن العلاج الآن, وجد (كارلو) نفسه أمام خصمه اللدود, إنه ذلك الميكروب الغامض, الذي راح يتحدث إليه يوما, كأنه واقف أمامه, وقال:

- أعدك أيها الشرير أن أخلص الناس من شرورك.

بدا الاثنان كأنهما في معركة حقيقية, راح (كارلو) يبحث عن وسيلة للقضاء على ميكروب السل بأي ثمن, وبدأ يدرس صفاته, وعرف أن الميكروب القاتل, يعيش في رئة الإنسان, وأنه يتكاثر بسرعة, ويلتهم جدران الرئة, حتى يحوّلها إلى أشلاء متناثرة.

ولأن الرئة هي أهم أجهزة الإنسان, بعد القلب, وعن طريقها يتنفس الإنسان, فقد اجتهد (كارلو) في أن يخلص الرئة المسكينة من عدوها اللدود, ميكروب السل.

وبعد عامين, طلع (كارلو) على العالم بوسيلته الفعالة في القضاء على المرض, لكن شيئا ما أصابه باليأس.

فقد اكتشف أن العلماء وجهوا اهتمامهم إلى العالم (كوخ) واكتشافه, هنا تذكر ما قاله يوما لأستاذه, حين كان تلميذا في مدرسة (ميلانو) وقال:

- لابد أن أكون عنيدا هذه المرة.

واستكمل أبحاثه ضد الميكروب, من أجل القضاء عليه, وفي عام 1895, أقام مؤتمرا طبيا لإعلان اكتشافه الجديد.

لكن أحدا لم ينتبه إليه, وفشل المؤتمر.

وردد (كارلو) في أعماقه:

- مرحبا بك أيها الإصرار والعناد.

ولم يغادر معمله لشهور عدة, وبدأت أخباره تنتشر في أنحاء العالم, وأحس المرضى بالأمل يحوطهم ونجح (كارلو) في علاج أكثر من ثلاثين مريضا في عام 1907.

وتنهد (كارلو) بارتياح, عندما جاءه صبي صغير, وقال له:

- يا أستاذ (كارلو) أنا مدين لك بحياتي, فقد شفيت بواسطة عقارك... لكن. وسكت الصغير, ثم نظر إليه, وسأله:

- هل تكتب لي وصفة إضافية عن أسباب النجاح.

وكتب (كارلو) كلمة واحدة في الوصفة, وسلمها إلى مريضه الصغير الذي شفي من المرض,(الإصرار).

وقرر الصغير أن تكون هذه الكلمة , هي طريقه إلى الأمام.

 


 

محمود قاسم