قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

الدينوري صديقة... خضراء اللون

رسـوم: ممدوح طلعت

(إنها صديقتي... وأنا آتي يوميا إليها لأكون إلى جانبها).

اندهش الصديق (حسن) من كلمات صديقه أحمد وهو يشير إلى الصديقة المقصودة. لم تكن سوى شجرة ضخمة, تقع وسط الحقول الواسعة, لذا سأله:

- الشجر كثير... لماذا هذه الشجرة...?

وضحك الصغير أحمد بن داوود الدينوري, وقال:

- عندما أقول لك إن هذه الشجرة صديقتي... فهذا يعني أن كل الأشجار صديقة لي بل كل تلك النباتات الخضراء...

وراح الصغير يشرح لصديقه أن الخضرة أساس الحياة... وأنها دليل حقيقي على ما جاء في القرآن الكريم وجعلنا من الماء كل شيء حي وسط دهشة (حسن) الذي لم يكف عن التساؤل:

- إنها شجرة, مجرد شجرة... لكن لماذا هي صديقة لك... مثلما أنت صديقي?

وجاءت الإجابة:

- عندما احتاج إلى ظل وسط الشمس الحارقة, آتي إلى هنا, وعندما أسعى إلى تأمل الطبيعة أجلس تحت هذه الشجرة, وأسمع صوتها يتحدث إليّ...

سأل (حسن): هل يتكلم الشجر?

هذا الحوار صار يدور كل يوم بين الصديقين (أحمد) و(حسن). ولأن هذا الأخير عنيد بلا سبب, يحاول دائما إثارة غيظ صديقه, فإنه كان لا يتوقف عن معارضته, واطلاق سيل من الأسئلة...

حدث هذا في القرن الثالث الهجري, في بلاد الأندلس, حيث استطاع المسلمون أن يوصلوا رسالتهم إلى هناك. وفي هذا العالم وجد العلماء مجالا خصبا للتأمل, والبحث العلمي, ومن بينهم (أحمد بن داوود الدينوري) المولود عام 235 هجرية.

وبعد أيام طويلة, وحوارات ساخنة, تمدد (حسن) تحت الشجرة, وقال وهو يمزح:

- الآن فقط, أفكر أن أمنح هذه الشجرة شرف أن أكون صديقا لها.

وقبل أن ينتهي من عبارته, سقطت فوقه ثمرة من الشجرة, فأخذ يصرخ غاضبا بينما صاح (أحمد):

- الشجرة قبلت صداقتك, بأن قذفتك بهذه الثمرة الجميلة..

وراح الصديقان يغسلان الثمرة, ويقتسمانها معا...

وبدأت رحلة الصداقة الطويلة بين الاثنين, صارا يتنافسان في حب الأشجار ويطلقان على كل نوع من الشجر اسما... واشتركا معا في هواية غريبة, غير موجودة من حولهما فهما يجمعان أوراق الأشجار, والنباتات, ويقومان بتصفيفها معا...

وعندما رحل (حسن) عن القرية, قال لصديقه الحزين من أجله:

- سأترك لك هذه المجموعة من أوراق الشجر... شرط أن تدرسها جيدا...

وسافر (حسن) واختفت أخباره, وأحس (الدينوري) بالحزن الشديد, وقرر أن ينفذ وصية صديقه, أن يخصص بقية عمره من أجل التعرف على عالم النبات.

وجد في النباتات والأشجار صداقة بديلة عن صداقته التي عقدها مع (حسن), وبدأ في إعادة ترتيب أسماء النباتات... فهذه أشجار تعيش أعماراً طويلة, تنتج الثمار والبذور, وتلك النباتات تعيش زمنا قصيرا, كالخضراوات. وهناك نباتات متوسطة العمر مثل شجرة الموز..

ومرت السنون...

وصار أكثر اقترابا من النباتات... وأحس بأنها بالفعل صديق وفي... وقرر أن يؤلف كتابا عن هذه النباتات...

واعتكف في بيته الريفي الصغير, يدرس, ويكتب... إلى أن طُرق باب بيته يوما فرأى رجلا عجوزا, قال له:

- أنا قادم من مصر... أرسلني صديق قديم لك... اسمه (حسن)...

ولم يعرف أحد الفرحة التي أحسها (أحمد الدينوري) وهو يتسلم هدية من صديقه الذي غابت أخباره, كانت عبارة عن مجموعة من النباتات الصحراوية التي تزرع في مصر وأيضا بعض ما كتبه علماء عرب آخرون أحبوا النباتات بالدرجة نفسها, ومنهم كتاب عن النباتات لـ(ابن الاعرابي) وكتاب آخر للعالم (الأنصاري)...

وأدرك (الدينوري) أن الصداقة لا تموت, وأحس بأن (حسن) ظل وفيا, ليس فقط للصداقة القديمة, ولكن لحب النبات, وجاء في خطابه:

(لست عالما مثلك يا صديقي, بل أنا هاو في عالم بالغ الاتساع)....

وقرر (الدينوري) أن يستكمل أبحاثه, من أجل صديقيه المقربين: (حسن), و(النباتات الخضراء) التي كتب عنها, يصفها, ويجمع ما قاله الشعراء عنها. ويحدث الناس عن فوائدها الطبية, للأصحاء والمرضى معا.

ولم تتوقف رحلة (الدينوري) بعد أن انتهى من وضع كتابه الذي جعل منه واحدا من كبار علماء النبات في التاريخ, ومنهم (أبوقراط), و(جالينوس) وكان يردد دوما لتلاميذه الذين يستفيدون كثيرا مما توصل إليه:

- لست عالما في النبات, بل أنا صديق لكل ما هو أخضر...

وكان التلاميذ يرددون دوما فيما بينهم:

- أستاذنا الشيخ (الدينوري) يتصرف كتلميذ دوما... لأنه مهما تعلم يشعر بحاجة أكثر إلى المعرفة.

 


 

محمود قاسم