قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسم: ممدوح طلعت

ابن أبي أصيبعة.. حكاية الطالب.. والأستاذ

«أن تكون طالبًا متفوقًا خير من أن تكون معلمًا فاشلاً».

رنت الجملة التي سمعها الصغير «موفق الدين» من أستاذه، في كتّاب الحي...بمدينة دمشق، وبدت كأنها تترك صداها القوي، فاستأذن في الكلام، وقال:

- سيدي المعلم... ولماذا لا يكون المرء طالبًا متفوقًا، ومعلمًا ماهرًا؟

نظر المدرس في استغراب ملحوظ إلى «موفق الدين»، وشرد كثيرًا، ثم قال:

- هكذا نحن العرب... طلاب متفوقون...ومعلمون ماهرون.

وبعد أن انتهى اليوم الدراسي في المدرسة القرآنية التي يتعلم فيها الصغير، علوم الدين بكل فروعها، ناداه المدرس، وقال له:

- أنصحك يا ولدي أن تحقق هذه المعادلة، فالأمم لا تسير إلا بقيادة أمثالك.

حدث هذا في مدينة دمشق، عام 1213م، كان الطالب «موفق الدين أحمد بن أبي القاسم بن أبي أصيبعة» في العاشرة من العمر، وقد حفظ القرآن الكريم بأكمله، وجوّده على أيدي أساتذة عديدين، وحفظ الحديث، وقرر أن يكون طبيبًا.

قرر أن يكون طالبًا، ليس فقط لأساتذته من أمهر الأطباء الدمشقيين، بل أن يتعلم اللغة اليونانية، حيث أنجبت اليونان أشهر الأطباء، فكتبوا بهذه اللغة، وأذاعوا علومهم على العالم، ومنهم «أبو قراط»، المعروف باسم أبو الطب.

وكبر الصغير، وصار شابًا، وعرف أن أشهر أطباء عصره، هو «ابن البيطار المالقي» يقيم في مدينة القاهرة، فقرر أن يسافر إليه، ليتتلمذ على يديه.

كان قد تعلم الدرس الحقيقي.

أن يكون طالبًا نابغًا، كي يصير طبيبًا ماهرًا.

وسافر إلى القاهرة، وقابل «ابن البيطار»، وقال له:

- بودي لو صرت تلميذًا لمعلم ليست لشهرته مثيل.

وتعلم المزيد من أستاذه الجديد، تعلم متى يستمع، ومتى يتكلم، وماذا يقرأ، وكيف يستفيد مما يقرأ، فاستطاع بذلك أن يقوم بتحصيل المزيد من المعرفة، ليس في الطب وحده، ولا في علم الصيدلة، أو علوم الكيمياء، والفيزياء، وكلها لها علاقة بالطب.

بل قرأ أدباء عصره وتعرف على مناهج الفلاسفة، وعلم الكلام، وكان كل همه هو أن يعمل بالترجمة، فقد قال له أستاذه «ابن البيطار»:

- الترجمة هي الطريق المؤكدة للتعرف على ثقافة الآخرين، وأفكارهم.

وبدأ في جمع المزيد من المعلومات عن الطب الإغريقي (اليوناني القديم)، والأطباء، والإنجازات التي تركوها للبشرية، وقرأ كتبهم، ووجد في نفسه وسيلة جيدة، لتوصيل هذه المعرفة إلى أقرانه من العرب.

في تلك الفترة، ذاعت شهرة «موفق الدين» في مستشفيات مصر، التي كانت تعرف باسم «بيمارستانات»، واستطاع أن يعالج مئات من الحالات المستعصية، وعكف على تأليف كتابه الضخم، «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، وعندما صدر الكتاب، قال أستاذه «ابن البيطار» الذي صار شيخًا عجوزًا.

- لا أتخيل أن يكون هناك طب حقيقي، دون مثل هذا الكتاب.

كان «موفق الدين» قد وضع في كتابه، كل ما يخص الطب، في الأمم السابقة على العرب في مجال الطب، ليس فقط الإغريق، بل أهل الروم، وفارس، وكتب أخرى جاءت من الشرق البعيد.

وأثبت «موفق الدين» الذي صار معروفًا باسم «ابن أبي أصيبعة» أن الطب حصاد تعاون إنساني، بين الأمم، فالجسم البشري هو نفسه، وأن البشر لا يختلفون فيما بينهم، جسمانيًا، إلا في اللون وأشياء أخرى بسيطة.

وصار كتاب «عيون الأنباء» بمنزلة مرجع استفاد منه الأطباء العرب في كل مكان، وعرفوا ما وصل إليه الطب في الأمم الأخرى، وعرفوا ما يمكنهم إضافته إلى هذا العلم المهم في حياة البشر.

واستكمل «موفق الدين» رحلته، وقرر العودة إلى مسقط رأسه مصاحبًا زوجته المصرية، وأبناءه الذين لم يدرسوا الطب، لكن أحدهم سأله ذات يوم:

- هل صحيح أن الطالب المتفوق، أفضل من المعلم الفاشل؟

ضحك الأب وتذكر هذا السؤال الذي تردد في الماضي البعيد، وكان عليه أن يردّد:

- المهم أن يكون المرء متفوقًا، طالبًا، أو معلمًا، طبيبًا، أو حتى مريضًا، لأن المريض المتفوق سوف يعتني بنفسه حتى يتولاه الله بالشفاء.

 


 

محمود قاسم