قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

عيون لا تعرف المستحيل

رسوم: ممدوح طلعت

(الحياة لا تعرف المستحيل)

نعم.. والا ما كان هذا الطفل المسكين (لوي) قد صار بمثل هذه الشهرة التي حققها, وما أدى إلى البشر كل هذه الخدمات الجليلة.

البداية بالفعل مؤلمة.. مثل كل القصص الدامية التي نشاهدها كثيرا في السينما والتلفزيون.

ورغم هذه القصة المؤلمة.. فإننا نحكيها.. عن الصغير (لوي برايل) البالغ من العمر ثلاثة أعوام, سنة 1812, الذي عاش مع أبيه في قرية فرنسية صغيرة.

لم تعرف القرية طوال تاريخها طفلا أكثر سعادة من (لوي) الذي كان يحاول التسابق مع الجياد العملاقة, التي يقوم أبوه بصنع المروج لها.. وكم امتلأ المكان بمداعبات الصغير الذي حاول أن يركض, مراراً, ليكون حصاناً.

قالت الأم يوماً لزوجها:

- أخشى على وليدنا.. أن يصيبه مكروه.. فهو دائم الحركة.. ولأن قلب الأم دليل لها, فقد حدث المكروه سريعاً, عندما دخل الأب يوما إلى ورشة السروج ووجد شوكة قد انغرست في عين ابنه اليسرى.

وكانت الفاجعة, انطلق الأبوان بحثاً عن طبيب لينقذ الموقف, لكن الحظ العاثر أوقعهما في طريق عجوز القرية التي قالت: دعوني سوف أوقف النزيف.

وراحت تعالجه بطريقتها البدائية, كانت امرأة غريبة الأطوار, تتصور أنها تعرف الكثير في أمور عديدة, وراحت تطبب الصغير الذي ساءت حالته كثيرا... وبعد ستة أشهر جاء الخبر المؤلم:

- لوي فقد بصره تماما.. العين السليمة لحقت بأختها.

ولم تعتذر العجوز, واستعاد الأبوان صغيرهما الذي رأى كل شيء أسود اللون أمام عينيه, واختفت الخيول البيضاء, والسماء الزرقاء, والحدائق الخضراء, وصار كل شيء قاتما.

ورغم كل شيء, فإن (لوي برايل) لم يفقد روحه المرحة, وذات يوم قال لأمه, التي لم تمنع نفسها عن البكاء:

أمي.. أنا الآن أسبح في بحر مظلم ليس له عمق, ولا نهاية, لكنني أرى أشياء جميلة, تجري أمامي, تحاول أن تسبقني.

وتحولت دموع الأم إلى ضحكات, وأخذ الأب صغيره بين يديه, وراح يعانقه, وهو يقول: يا عزيزي لوي.. دعنا نشاهد الدنيا نيابة عنك.

وعاد لوي الفاقد البصر إلى ورشة أبيه, كان يرى الجياد بأصواتها, ويداعبها ويسأل عن ألوانها, وخصلات شعرها, والسروج التي يعدها أبوه لهذه الجياد.

وتولدت الصداقات بينه وبين الجياد بشكل مختلف, ما إن يسمع أصواتها حتى يناديها بأسمائها, فتقبل إليه, وتداعبه, بينما يردد الأب محذرا ابنه أن يعود إلى سيرته الأولى, أي أن يتحرك أكثر من اللازم.

ومرت السنوات بالصغير, وقرر الأب أن يرسله إلى باريس حيث توجد هناك مدرسة خاصة بالمكفوفين مثله, وهناك التقى بقس روى له الكثير من الحواديت, وقرأ عليه قصص الأنبياء.. والرسل.

لم تكن الحياة سهلة في المدرسة.

فالصغير لوي البالغ العاشرة من العمر, يعيش بعيداً عن والديه اللذين لم يكفا عن تدليله, كما أن القس الذي استراح إليه ترك المدرسة إلى الدير, ولم يعد يستمتع بالقراءة التي كان يقوم بها القس.

وقرر الصغير أن يقرأ الكتب بأي طريقة, ودون الحاجة إلى شخص يقرأ له.

وراح يتفكر, فالمبصرون لم يفكروا أبدا في وسيلة يقرأ بها فاقدو البصر, لكنه هو في أشد الحاجة إلى أن يعتمد على نفسه في القراءة.

وجاءت الفكرة...

ففاقد البصر... لديه نعمة أخرى هي القدرة على اللمس... فلماذا لا يقرأ زملاؤه في المدرسة بأطراف أصابعهم.

وبدأ الصغير في إيجاد وسيلة للمس, وتعاقبت الأفكار على ذهنه, وبدأ في عمل مجسمات خاصة يستطيع من خلالها أن يتعرف عليها.

وذات مساء, تحسس (لوي) لعبة الدومينو, واكتشف سرا راح يستعين به, فاللعبة تتكون من 63 قطعة, كل منها تختلف عن الأخرى.

واستطاع (لوي برايل) أن يصنع مُجسمات خاصة, لكل منها رمز خاص, تدل على حرف بعينه...

وذاعت طريقة الشاب في مدارس فاقدي البصر.

وتنافست المؤسسات على عمل الكتب التي يمكن لفاقدي البصر أن يستخدمو أصابعهم فيقرأوا ما بها بحاسة اللمس دون الاستعانة بالمبصرين.

وانتشرت الكتب في مدارس فاقدي البصر. وصار (لوي برايل) أول معلم من نوعه, وعندما رحل عام 1852, قرر تلاميذه إطلاق اسمه على هذه الطريقة.

ونجح الناشر البريطاني (آرميتاج) في أن ينشر العديد من الكتب على طريقة (برايل) في المدارس الأجنبية, ومن لندن انتشرت إلى كل أنحاء الدنيا.

وبعد سنوات قليلة, ظهر أول كمبيوتر لفاقدي البصر, يساعدهم في القراءة, دون الاستعانة بالمبصرين.

وقام المترجمون, فاقدو البصر, بهذه الطرق السهلة بترجمة مئات الكتب, وفي مصر هناك مترجم كفيف مشهور نجح في ترجمة عشرات الروايات والكتب عن طريق كمبيوتر برايل. ومنها رواية (الصرخة الصامتة) الحائزة على جائزة نوبل, والمنشورة في روايات الهلال عام 1996م والتي ترجمها الكفيف إبراهيم محمد كأول حال من نوعها.

كل ذلك بفضل طريقة برايل للقراءة.

 


 

محمود قاسم