قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسم: ممدوح طلعت

ابن ميمون.. التلمذة.. أفضل أم الأستذة!!

«الدنيا عقاقير»..

كانت الجملة غريبة على أذن الصغير «موسى»، وقبل أن يسأل عما تعني كلمة عقاقير، رد أستاذه «يوسف».

«بل الدنيا... كيمياء... لأن العقاقير، وهي المحاليل المستخدمة للعلاج، ما هي إلا كيمياء».

وصار الأمر في حاجة إلى المزيد من التفسير، فهل الدنيا كيمياء بالفعل، وامتلأت غريزة الفضول إلى المعرفة لدى الصغير «موسى بن ميمون» الذي ولد في مدينة قرطبة بالأندلس عام 1134م، وراح يستمع من أستاذه، الذي قال:

- الماء هو أساس الحياة، يدخل في تركيب كل شيء، وإذا امتزج الماء بالهواء، أو إذا امتزجت السوائل معًا، والعنصر الأساسي فيها هو الماء، فإن تركيبات جديدة ستتولد .

كان «موسى» يتوق إلى اللعب، ويعشقه، وتحولت كلمات «الشيخ يوسف» إلى أساليب عدة لممارسة ألعاب جديدة، صار يذهب إلى العطار، لإحضار المواد الصلبة، والسائلة، ويخلط كلاً منها بالآخر، وفي كل مرة، وعند كل إضافة، تتولد مركبات جديدة.

وكان أبرز ما في هذه المركبات هي ألوانها الطريفة والزاهية.

لكن هذه الألعاب، ما لبثت أن تحولت إلى علم، وبدأ «موسى» يبحث عن تفسيرات لما يحدث، فكان يرجع إلى أستاذه الشيخ يوسف، الذي أرشده بدوره إلى أساتذة آخرين في المدينة برعوا في علم الكيمياء.

ونجح في أن يعرف المزيد عن الكيمياء، وتمنى لو ينجح في عمل عقار جديد، يمكنه أن يعالج كل الأمراض التي تصيب الإنسان، لكن «الشيخ يوسف» الذي فقد البصر في تلك السنوات، قال لتلميذه:

- اذهب إلى مصر... فهناك يمكن أن تعرف أصول الطب.

لم تكن لديه أي نية لدراسة الطب، إنه يود أن يلعب مع الكيمياء، وأن يستخرج عقاقير جديدة، لكن أستاذه، قال وهو يودعه:

- كل العلوم لعبة... والطب أيضًا... لعبة...

وحط الشاب في بلاد عدة، من مراكش إلى فاس، وقيروان، ثم استقر به المقام في القاهرة، وفي القاهرة درس الطب، حسب نصيحة أستاذه، وتعلم في «بيمارستان» القاهرة، إلى أن أحس يومًا بالعجز أمام حال مستعصية لطفل أصابه تسمم، فلم يتمكن من إنقاذه، وأحس بالندم الشديد.

وقرر أن يكرس حياته، لدراسة السموم، والتعرف على الترياق الخاص بكل سم، واكتشف أن لكل سم مزيجا كيميائيا خاصا يعالج صاحبه منه، واستطاع خلال سنوات البحث أن يتوصل إلى الترياق المناسب لكل سم.

وكتب فصلاً خاصاً باسم «السموم والتحرز من الأدوية القاتلة».

لكنه اكتشف أن التسمم ليس هو المرض الوحيد الذي يصيب البشر، وهو الذي لم يكف عن التفكير في اكتشاف مادة كيميائية واحدة، تساعده في علاج كل الأمراض.

وامتلأت حياته بالأمل، في أن يتوصل إلى هذا الابتكار الذي ليس له مثيل.

لكن أبحاثه تداخلت فيما بينها، وجد نفسه يكتب المزيد من الفصول حول الأمراض،وعلاجها، وبعد سنوات استطاع أن يجمع هذه الفصول في مجلد واحد أطلق عليه اسم «فصول موسى بن ميمون».

ذات يوم، دخل عليه رجل مهاب الطلعة لم يره من قبل، وقال له:

«أنا القاضي الفاضل مستشار مولانا السلطان صلاح الدين الأيوبي».

وتلاحقت الدهشة تلو الأخرى على وجه «ابن ميمون»، الذي أخذه القاضي إلى السلطان الذي قربه منه.

وصار «ابن ميمون» الطبيب الخاص في قصر السلطان.

لكنه لم يكف عن البحث عن التركيبة الكيميائية التي تعالج كل الأمراض، مما جعله يسعى للحصول على المزيد من المعرفة، في الفلسفة، وعلم الكلام، والصيدلة، والمزيد من الطب.

قال يومًا للقاضي الفاضل:

- أحسست بالمسئولية الكبرى كطبيب خاص لجلالة السلطان، وأبنائه، لذا تحولت إلى تلميذ حقيقي في دنيا الطب.

وظل «ابن ميمون» يتصرف كتلميذ، يسعى إلى الجديد من المعرفة، فصار من أشهر أطباء ومفكري عصره، وأطلقوا عليه لقب «أستاذ الأطباء».

أما هو فكان يردد بتواضع: في العلم التلاميذ أفضل من الأساتذة، لأنهم لا يكفون عن التحصيل.

قال الرجل هذه الكلمات، بعد أن قام بتلخيص أهم كتب الطب اليونانية القديمة تحت عنوان «المختصرات»، وبعد أن «شرح فصول أبو قراط» المعروف باسم «أبو الطب»، وبعد أن انتهى من إعداد كتابه الضخم المسمى «فصول موسى في الطب».

وقبل رحيله بأيام في عام 1204، سأله تلميذه العالم الشهير «عبداللطيف البغدادي»:

- هل يمكن للعلم أن يتوصل إلى مركب كيميائي يصلح لكل الأمراض، قال العالم العجوز ضاحكًا:

- أنا شخصيًا، أفنيت عمري، في البحث عن هذا المركب، فلم أتوصل إليه، ترى هل سينجح العلماء من بعدنا في التوصل إليه... الله أعلم...!!

 


 

محمود قاسم