بيتنا الأرض

بيتنا الأرض

الصغار يحيطون بكوكبنا

في أول يوم من أيام الصيف خرج ثلاثون من الأولاد والبنات في مدينتي الإسكندرية وأسوان. كانوا على ميعاد برغم بعد المسافة, وكان الهدف واحداً وهو أن يمسكوا - حسابيا - بمحيط الأرض, بالطريقة نفسها التي طبقها عالم نشأ وترعرع على الأرض العربية منذ 2279 سنة وهو (إيراتوستينس) عالم الفلك والرياضيات والجغرافيا والفلسفة الذي ولد في سيرين بليبيا, وتعلم وأضاف للعلم وتألق في مكتبة الإسكندرية القديمة.

لقد أدرك البشر أن الأرض كروية عندما لاحظوا أن السفن تختفي عند الأفق.

لكن كم يبلغ محيط هذه الكرة العملاقة? سؤال كان العالم إيراتوستينس هو أول من أجاب عنه عندما لاحظ أن الشمس عند الظهيرة في يوم الانقلاب الصيفي (21 يونيو) تضيء قاع إحدى الآبار في أسوان التي كانت تسمى آنذاك سيان, ومعنى ذلك أن أشعة الشمس كانت تسقط عموديا على الأرض دون أن تترك ظلا.

بينما في الوقت نفسه من عام آخر عندما كان إيراتوستينس يرصد إحدى المسلات في الإسكندرية لاحظ وجود ظل واضح لها وللأشياء من حولها ما يعني أن أشعة الشمس كانت تسقط في الإسكندرية بزاوية ميل قاسها إيراتوستينس ووجد أنها تساوي 7.2ْ.

فكر إيراتوستينس وفكر, بما أن أشعة الضوء تنبعث متوازية من الشمس, فإن زاوية ميل الظل الذي يظهر في الإسكندرية (ولا يظهر في أسوان) تتناسب مع المسافة بين المدينتين على الدائرة التي تمثل محيط الأرض. وبما أن زاوية مركز دائرة كاملة تساوي 360ْ فإن محيط الأرض يساوي 360/7.2X800 (المسافة بين الإسكندرية وأسوان كما حسبها القدماء سيراً على الأقدام).

وكانت النتيجة التي وصل إليها إيراتوستينس تقول إن محيط الكرة الأرضية يساوي أربعين ألف كيلومتر وجزءاً صغيرا جدا من الكيلومتر. أما العلم الحديث الذي قاس محيط الأرض بالكمبيوتر وطائرات الأبحاث والمناظير والأقمار الفضائية فلم يختلف عن قياس إيراتوستينس إلا بجزء ضئيل جدا جدا لا يكمل كيلومترا واحدا, إذ يبلغ محيط الأرض بالقياسات الحديثة 39 ألف كيلومتر وجزءا من الكيلومتر مقداره 0.941.

بعد هذا النجاح الفذ للعالم إيراتوستينس بحوالي ألفين وثلاثمائة عام, تجمع الأولاد والبنات في فناء مكتبة الإسكندرية الجديدة, وتطوع للإشراف العلمي عليهم أستاذ علم الفلك والفيزياء والباحث بمرصد باريس (رينيه ديدرو). كرروا قياس زاوية الظل بمناقل حديثة لكن بالطريقة نفسها التي عمل بها إيراتوستينس.

وكانوا يتصلون بالهواتف النقالة بأولاد وبنات أسوان لتكون القياسات لزاوية ميل الظل في الإسكندرية مواكبة للحظة نفسها في أسوان والتي لا يكون للأشياء ظل فيها.

نجحت التجربة, وصفق الصغار في فناء مكتبة الإسكندرية الجديدة, وفي مدينة أسوان أيضا, وكان تصفيقهم تحية لعالم ولد وعاش وتألق علمه على جزء من أرضنا العربية. كما كان هذا التصفيق تحية للعقل البشري الذي عندما يجتهد يسبق زمنه بآلاف الأعوام.

 


 

محمد المخزنجي