الموسيقيُّ الأصمُّ

الموسيقيُّ الأصمُّ

لودفيجْ فانْ بيتهوفن

رسوم: سمير عبدالمنعم

صديقي العزيزَ!

افتحْ لي أذنيكَ, واسمعني جيّدا:

- إنَّ العاهةَ التي أصابتني في أذنيَّ تخيفُني وتُقلقني كثيرا!

هلْ تدركُ خطرَ هذه العاهةِ على صحَّتي, وعلاقتي بأقْربائي وأصدقائي?!

ستنقطعُ صلتي بهمْ تماما, لأنَّني لنْ أعودَ أسمعهمْ ماذا يقولون لي أوْ عني! ستقولُ ناصحا:

- ولماذا لم تعالجهُما حينا, قبلَ أنْ يزدادَ المرضُ?

وأنا سأجيبكَ فورا, بلا تردُّدٍ:

- لمْ يستطع الفحصُ الطبيُّ أنْ يسعفني, فيحدّدَ للأطبّاءِ الذينَ كانوا يشرفونَ عليَّ علاجا نافعا, ينقذني منَ الصَّممِ, ويهدئُ ألَمي الحادَّ!

هذا الألمُ, يا صديقي, ظلَّ يلازمني مثلَ ظلّي, منذُ سنة 1798 لكنْ..

وهنا تكمنُ قوّتي, وثقتي بنفسي, وعزيمتي الثابتةُ..

أعترفُ لكَ أنَّني لم أرفعِ الراية البيضاء لهذا العدو الخطير الذي غزا أذنيَّ.. أيْ لمْ استسلمْ له, بلْ تحديتهُ بكلِّ ما أمْلكُ منْ جهدٍ وصبرٍ وثقةٍ.

قلتُ له بشجاعةٍ:

- لا, لا تظنَّ, أيها العدوُّ, أنَّني سأيأسُ!.. سأستمرُّ في دراستي الموسيقية ونشاطي الفني!..سأظلُّ ألحّنُ وأعزفُ طيلةَ حياتي, حتّى أرحلَ عن هذا العالم!

وهكذا تحديتُ عدوّي الداءَ الخطيرَ, فأصبحتُ من أكبر المؤلفينَ والملحنينَ والعازفينَ لموسيقى المستقبلِ!

- ماذا تقصدُ بـ (موسيقى المستقبلِ)? وهلْ هناك موسيقى خاصة بزمانٍ دون آخرَ. فهيَ إمّا أنْ تكونَ جميلةً تظلُّ حيةً, مثلَ الأندلسيةِ, مثلا. وإمّا أنْ تكونَ رديئة, تموتُ في حينها, مثلَ الحشراتِ..!

- لكنْ, أنا أعْني بكلامي هذا, أنَّ مؤلفاتي الموسيقية, لمْ تُنْجزْ للجمهور العادي, الذي يكتفي بالسَّهْل والسريعِ والقليلِ, وإنّما للمتعلمينَ والمثقفينَ, الذين سيظْهرونَ في المستقبلِ ليقدِّروا جُهودي الفنّية..!

كما ينبغي أنْ تعلمَ أنني لا أقلّدُ الموسيقيينَ, ولا أجترُّ قطعهمْ, مثلما يفعلُ البعضُ.. لا, لا يعجبني هؤلاءِ ولا تقليدهمْ..!

قاطعني بإعجاب:

- يا لكَ من فنّانٍ عبقريٍّ!.. لكنْ, قُلْ لي:

كيفَ تعلّمتْ العزفَ على الآلات الموسيقية المتنوعةِ?

وكيف أصبحتَ مؤلفا للعشرات من القطعِ الذائعة الصيتِ في كلِّ أنحاء العالم?

أجبتهُ باسما:

- إذنْ, أصغِ إليَّ, وإيّاكَ أن تُقلدني, فأنا لا أحبُّ - كما قلتُ لكَ من قبلُ - التقليدَ والمقلدينَ.

أنتَ عربيٌّ, وأنا غربيٌّ, وكلٌ منّا ينبغي أن يطورَ موسيقاهُ ويحسنّها!

ولدتُ في مدينة (بون) سنة 1770 وانطفأتْ شمعةُ حياتي بمدينة (فيينا) سنة 1827 أي عشتُ سبعةً وخمسينَ عاما.

تلقيتُ المبادئَ الأولى للموسيقى على يد جدّي وأبي اللذينِ كان يحبانِ الفنَّ والفنانينَ حُبّا جمّا.

هاجرا منْ هولندا إلى ألمانيا, وعملا بها موسيقيينِ.

وهكذا فتحتُ عينيَّ الصغيرتينِ, وشحذتُ أذنيَّ الرهيفتينِ, على اللحنِ الجميلِ والنغمةِ العذبة.

ولمّا بلغتُ من العمرِ ستَّ سنواتٍ, سافرَ بي والدي إلى مدينةِ (كولونيا) لأعزفَ على الكمانِ والبيانو في قصرِ الملك. وكمْ كانتْ دهشةُ الأمراءِ والوزراءِ والعلماءِ والحاضرينَ من المدعوين, عندما سمعوا نغماتي تنثالُ من البيانو.

وهناكَ في قصرِ الملكِ قابلتُ أستاذا للموسيقى, قرأ في عينيَّ النَّجابةَ والنّباهةَ, فقرَّبني منه, ومرَّنني على ألحانِ الموسيقيينَ الكبارِ الذينَ سبقوني, وخلَّفوا آثارا فنّية عظيمةً, منْ أمثالِ (باخْ) و(موزارْت)!

أذْكر, يا صديقي, أنَ سِنَي آنذَاكَ لا تتعدّى ثلاثةً عَشَرَ رَبيعا, حينما كَوَّنْتُ أوركستْرا, لأقدّمَ مُوشّحاتٍ دينيّةٍ, وقِطعًا لموزارت.

ولَمْ أكنْ أجيدُ العزفَ على البيانو فقطُ, وإنّما على الكمانِ والأرغنِ أيضاً, كما أهتمُّ بما تقدّمُهُ الْفِرقُ الْمَسرحِيّةُ منْ أعمالِ شكسبير, وأقرأ بنَهَمٍ شِعْرَ (شيللر) و(غوته) الشّاعريْنِ الكبيريْنِ.

إن ثقافتي ودراستِي شاملَتانِ, تتفتّحانِ على كل الفنونِ والآدابِ, كالمسرَح والشّعرِ والرّوايةِ, فأنا لا أكْتفي بالموسيقى وحْدها, وإنما أحاولُ أنْ أغْني عقْلي ونَفْسي بكُلِّ جميلٍ ومفيدٍ.

ولهذا تجِدُ أعْمالي الموسيقيّة ترْسُمُ ثقافتي الْواسعةِ, الّتي تَشعِرُ مُسْتَمِعَها بما يملأُ عالَمَنا مِنْ خَيْرٍ وَشرٍّ, وحُبٍّ وكراهيةٍ, وحَقٍّ وظُلْمٍ, ونورٍ وظلامٍ, وفَقْرٍ وغِنَى, وسَلامٍ وحَرْبٍ, حركةٍ وسكونٍ...!

وهُناكَ, يا صديقي, بِئْرٌ أخْرى, نَهِلْتُ كثيراً مِنْ مائِها الْعَذْبِ الصّافي, لا تقِلُّ عَنْ آبارِ الشّعْرِ والْمَسْرَحِيَّةِ والْعَزْفِ, إنّها نُزْهَتِي الْيَوْمِيَّةُ بَيْنَ أحْضانِ الطَّبِيعَةِ الْخَلاَّبَةِ.

لا تَسْتَطيعُ أنْ تَتَصَوَّرَ دَرَجَة سَعَادتي, وأنا أسيرُ هائماً على وَجْهي في الْغابةِ الْخضراءِ, وتحْتَ ظلالِ الأشجارِ الوارفةِ, وبينَ السّواقي والْجداوِلِ الرّقراقةِ مِياهُها.

لا يُمكنُكَ, لا أنتَ ولا غيرُكَ, أنْ تحبَّ الطّبيعةَ أكثر مِمّا أحبُّها. ففيها أشعُرُ بالراحةِ التامّةِ, والهُدوءِ الشّاملِ, والفرحةُ تملأُ قلبي. وفيها انصتُ للطيورِ والعصافيرِ الوديعةِ, تزقزقُ وتشقشقُ فرحانةً, ولهديل الحمامِ, وخريرِ الماءِ, وحفيفِ الشّجَرِ.

ما أجمَلَ الطَّبيعة, يا صديقي!

وعلى الرّغم من إصابتي بالصّمم, فإنني كنتُ أقودُ الأوركسترا, وأتتبّعُ حركاتِ العازفينَ بعينيَّ, وفي نهايةِ العرضِ, يقفُ الجمهورُ الحاضرُ ليصفّقُ لي طويلا, فأدركُ أنّ عمليِ كانَ جيداً, نالَ رضاهُم, وإلاّ لماذا يتبسّمون ويصفّقونَ?!

وفي هذِهِ الفترةِ الّتي تمتدُّ مِنْ 1795 الى 1815 أي عِشرينَ سنةٌ, تحديتُ صمميِ وألمِي, وألّفتُ أكثرَ أعمالي, مِنْها:

اثنتانِ وثلاثونَ قطعةً بالبيانو, وعشرٌ بالكمانِ والبيانِ, وغيرُها كثيرٌ, لا يُحصى ولا يُعدُّ.

ومنْها قطعٌ موسيقيّةٌ غنائيةٌ, من مِثلِ: (إلى الحبيبةِ البعيدةِ جداً وعلى جبلِ الزّيتونِ) و(تحيّة لرجلٍ عظيمٍ) أقصد نابليونَ بونابارتْ, لكنّني مزّقتُها في ما بعدُ, وأطلقْتُ عَليْها اسْما جديداً (السيمفونيّةُ البطُوليّةُ) لمّا علمتُ أنّ نابلْيونْ, استغلَّ انتصاراتِهِ لينصبَ نفسَهُ امبراطورا!

- وما الّذي يضرُّكَ في ذلِكَ?!

- خفتُ, يا صديقي, أن تكبُرَ طموحاتُهُ وتزدادَ إلى الحدِّ الّذي يجعلُهُ يقضي على حقوقِ الإنسانِ, فيسجنُ مَن يشاءَ, ويهلكُ مَنْ يشاءُ, ويطلقُ يديهِ كما يشاءَ...!

يجبُ أنْ تَعرٍفَ انّني مُنذُ طفولتي الأولى, وأنا أحِبُّ الْخَيرَ, وأدْعو إلى المحبَّةِ والتآخي بينَ البشرِ, وإنْ عزلني المرضُ عنهمْ زمناً طويلاً...!

 


 

العربي بن جلون