عبدالله الصائم الشهم

عبدالله الصائم الشهم

رسوم: روني سعيد

قال مدير المدرسة للتلميذ عبدالله:

- نحن نسمعك, يا بنيّ, ونفهمك..., احك لنا, ولا تخف.

لاحظ المدير أن عبدالله لايزال واقفا, فأضاف:

- اجلس, يا بني, واحك لنا الحكاية كلها.

جلس عبدالله, وبدأ يحكي.

***

في قرية بجنوب لبنان, كان هناك تلميذ اسمه عبدالله.

أقام عبدالله, في هذه القرية المجاورة لقريته, ليكمل تعليمه في مدرستها, وكان يذهب في نهاية كل أسبوع إلى قريته, ويعود في بداية الأسبوع التالي بما يكفيه من المال والزّاد طوال الأسبوع.

وفي الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك, لم يستطع السفر, فقد اضطرّ عبدالله - استعدادا للامتحان - الى أن يمضي عطلة نهاية الأسبوع في غرفته الصغيرة, وأن ينتظر ما سوف يرسله الأهل له من مال وزاد.

مرّ يوم, ولم يصله شيء, فتدبّر أمره بما تيسّر له من بقايا, ثم مرّ يوم آخر طويل.. طويل, ولما ارتفع أذان المغرب, لم يكن لديه ما يفطر عليه سوى الماء فشرب وحمد الله, ثم أضاء المصباح وانصرف إلى دروسه, ففي الغد امتحان مادة اللغة الأجنبية, ومدرّسها قاس لا يرحم, لكن المعدة الفارغة كانت تجعل السطور تتلوّى أمام عينيه, وترتجف وتصعب على الفهم والحفظ.

حاول أن يركّز, فلم يوفّق, فضرب السطور الهاربة بيده ضربات قوية اهتزّت لها بلّورة المصباح, وتمايلت, ثم وقعت, وتدحرجت وانكسرت.

ساد الظلام, فأطبق عبدالله كتابه, وأوى إلى فراشه وهو يتمتم: في الغد أنهض باكرا, وأعوّض ما فاتني الليلة.

نام الفتى الجائع نوما متقطّعاً جعله يستيقظ متأخراً عن موعد الامتحان ومتعباً, فقرر أن يعود إلى قريته مشيا على قدميه, ويحكي لأبيه ما حدث له.

كانت الطريق إلى قريته تمرّ من أمام المدرسة, فانتظر حتى دخل التلامذة والمدرّسون إلى الصفوف, بعد استراحة الساعة العاشرة, ومرّ مسرعا زارعاً نظراته في الأرض.

وفجأة, توقّف, كاد يدوس محفظة جلدية صغيرة, تراجع خطوة, وتأمّلها, كانت حقيبة سوداء عتيقة, في وسطها شيء يلمع, تقدّم, انحنى, التقطها, وضعها تحت إبطه, ركض... وعندما صار بعيدا عن المدرسة وعن أعين المارّة, فتحها, ورأى ما جعله يردّد بفرح:

- أوه... هذا رزق من الله, أرسله إلي, هو يعرف حاجتي إليه, ولا مال معي, هو يعرف أنّي صائم... صائم... صائم.. و...

وصمت, كانت تدور في ذهنه خواطر.

- ولكن, هذه المحفظة لها صاحب, اليوم قبض راتبه, من المؤكد أنه يحتاج إليه, هو وأولاده... و... لا... وانصرفت يداه تفتحان المحفظة, وتبحثان في جيوبها, وجد بطاقة, قرأ الاسم, وضع يده على جبينه, وانفرجت شفتاه, وتمتم:

- هو... هو... هذه فرصة لن أفوّتها, لا لن أعيد المحفظة له, يستاهل أن يتألّم ويحزن!

أغلق المحفظة, وضعها تحت إبطه بعناية, نهض ومشى يكمل الطريق إلى قريته بخطى بطيئة, لكن سرعان ما تثاقلت خطواته, ثم توقف, وجلس, وفكر, ثم نهض, وهو يردّد:

- لا... لا... للمحفظة صاحب وأنا أعرفه, علي أن أعيدها له.

عاد عبدالله من حيث أتى مسرعاً, ولما صار أمام بوابة المدرسة, توقف لحظات, حكّ صدغه مرّات, ثم دخل, كان التلامذة يخرجون من قاعة الامتحان. لمحه المدرّس. صاح به:

- صحّ النوم, يا زعيم... شُوْوْوْ... مبكّر البَيْك اليوم... ليش معذّب حالك, الامتحان خلص, وهذه نتائجه, وسأوصلها الآن للإدارة.

مشى المدرّس صوب الادارة, لحق به عبدالله, وهو يقول:

- أستاذ... أستاذ... اسمعني... أرجوك اسمعني... لم يلتفت المدرّس إليه, فلحق به, ودخل خلفه من الباب الذي فُتح وبقي مفتوحا للحظات, وهو يقول:

- أستاذ... أستاذ... أرجوك اسمعني...

ولما دخل, فوجئ بالمدرّسين ينظرون إليه باستغراب, ثم رأى المدرس إياه يستدير ليواجهه, وسمعه يصرخ به:

- مابك.? ماذا جئت تفعل هنا?! من سمح لك?!

لم يعرف عبدالله كيف أتته الجرأة, فلم يتراجع وتوجّه إلى المدرسين, وهو يقول:

- أنتم لا تعرفون لم غبت اليوم عن الامتحان, ولا أحد منكم مستعد لأن يسمعني ليعرف, سأذهب إلى قريتنا وأخبر أبي, وسيعرف كيف يتصرّف, أما سبب مجيئي إليكم, فلأعطي أستاذي الكريم حقّه, رفع المحفظة بيده, وأضاف:

- هذه محفظتك, وجدتها ملقاة على الطريق... وضع عبدالله المحفظة على طاولة وجدها على مقربة منه وخطا صوب الباب على مهل.

كان الصمت يسود, وفجأة فُتح باب, وعلا صوت حنون: عبدالله... عبدالله.

ابتسم عبدالله, وتوجه إلى المدير, وأكمل:

التفت, فوجدتك تلحق بي, وتمدّ يدك إلى وتقول تعال, يا بني, تعال احك لنا الحكاية كلها, وها قد حكيتها...

***

ابتسم المدير, وقال لعبدالله:

انظر إلى مدرّسك, ألا ترى الدموع في عينيه, والبسمة على شفتيه? انظر إلى بقية المدرسين, ألا ترى الفرح يشعّ من وجوههم مثلي أنا تماما...

أجال عبدالله نظراته في الوجوه المحيطة به وقال:

- بلى, يا أستاذ.

فقال المدير:

- لن يكون إلاّ ما تحبّ يا بني, ولن تذهب اليوم, إلى قريتك, فلك هنا قلوب وبيوت كثيرة مفتوحة لك...

 


 

عبدالمجيد زراقط