الطفل والغزال.. وليم شكسبير

الطفل والغزال.. وليم شكسبير

رسوم: سمير عبدالمنعم

في ذلكَ المساءِ الرَّبيعيِّ الجميلِ, تسلّلَ الطِّفلُ وليمْ شكسبيرْ إلى حديقةِ السيّدِ لوسي شارْلكوتْ... وتقدّمَ بخُطى بطيئةٍ هادئةِ نحو غزالٍ صغيرٍ, كان قابعاً تحتَ شجَرةٍ ظليلةِ, يملّي عينيهِ بألوانِ الورودِ والزهورِ العبقةِ بأريجهَا الذكيِّ, وبزقزقةِ الطيورِ, ورفرفةِ الفراشاتِ الملوّنةً.

فجأةً, أحسّ الغزالُ الوديعُ بخشخشةٍ بينَ أغصانِ الشجرةِ المتدليّةِ. التفتَ بسرعةٍ, إذا بالطفلِ يقفزُ عليهِ في لمحةِ البصرِ, ويمسكُ بهِ من قرنيهِ الصغيرينِ...

أرادَ أنْ ينفلتَ منْ بينِ يديهِ, فلمْ يستطعْ: ماذا يريدُ هذا الطفلُ?... أنَا غزالُ السيدِ لوسِي?

ولمْ يلبثْ وليمْ أنْ جرَّ الغزالَ منْ قرنيهِ نحوَ الخرقِ الذي أحدثهُ في سياجِ الحديقةِ:

- إذنْ, يريدُ هذَا اللصُّ الصغيرُ أنْ يسرقنِي!

قالَ الغزالُ في نفسِهِ!

في تلكَ اللحظةِ, حضرَ السيدُ لوسِي, فوجدَ الطفلَ يجرُّ الغزالَ, لم يصدقْ عينيهِ. دعكهمَا جيدًا, ولمّا تأكدَ, تقدمَ منْ وليمْ غاضبَا. ثمَّ أمسكَ بأذنيهِ, وجذبهمَا, كمَا فعلَ الآخرُ للغزالِ:

ماذَا تفعلُ في حديقتِي, أيّها الطفلُ الشَّقيُّ?! كَيْفَ تجرؤُ فتدخلهَا بلا إذنٍ منّي, وتجرَّ هذا الغزالَ اللطيفَ?!

ردّ وليمْ متلعثمًا:

- أيْ... أيْ.... أذني... إنكَ تؤلمنِي..!

لمعتْ عينَا لوسِي:

قُلْ لِي: وأنتَ, ألمْ تؤلمِ الغزالَ المسكينَ, عندمَا جذبتهُ منْ قرنيهِ?!

توسلَ وليمْ قائلاً:

- أرجوكَ, يا سيّدي, أنْ تسامحنِي... أنَا لمْ أفعلْ شيئًا سيئًا أستحقُّ عليهِ عقابًا... كنتُ ألعبُ معهُ فقطُ!

ضحكَ لوسِي قائلاً:

- ولماذَا تجذبهُ نحوَ ذلكَ الخرقِ?!.... أليسَ لتذهبَ بهِ إلى منزلكَ?!.... كانَ عليكَ, يابنيَّ, أنْ تُعمِلَ عقلكَ وذكاءكَ في مَا ينفعكَ ويفيدكَ وتملأُ فراغكَ بالدراسةِ والمطالعةِ, بدلَ السَّرقةِ وتعذيبِ الحيوانِ الذي لا يستطيعُ أن يدافعَ عنْ نفسِهِ, ولا أنْ يتكلمَ ويصيحَ ويستغيثَ!

عادَ وليمْ ليتوسّلَ قائلا:

- أتركنِي, يا سيّدي, أرجوكَ... لن أدخلَ حديقتكَ ثانيةً, ولا حديقةَ غيركَ, أو أعتديَ على حيوانٍ...

قاطعهُ لوسِي باسمًا:

- سامحتكَ هذه المرّةَ, شرطَ أنْ تهتمَّ بدراستكَ, وتتأدبَ أكثرَ...!

منذُ تلكَ الحادثةِ, التِي كانتْ بمثابةِ ناقوسِ خطرٍ, أصبحَ وليمْ تلميذًا نجيبا, لا يكْتفي بدراستهِ, وإنّما يقبلُ بشراهةِ على قراءةِ القصصِ والأساطيرِ والرواياتِ والأشعارِ, وتعلمِ اللغاتِ, كاللاتينيّة واليونانيّة, ليقرأ أمهاتِ المؤلفاتِ المسرحيّةِ في لغاتهَا الأصليةِ.

لكنْ, دعْنا نبدأ منْ الأولِ:

ولدَ وليمْ شكسبير في الثالثِ والعشرينَ من شهرِ أبريل عام 1564 في شارعِ (هنلي) بمدينةٍ تجاريةٍ, تسمّى (ستراتفورد) تقعُ على نهرِ (آفون).

كانتْ والدتُهُ (ماري أردن) غنيةً, تملكُ ضيعاتٍ وبساتينَ غناءَ, تدرُّ عليهَا أموالا طائلةً. وكانَ أبوه صانعًا ماهرًا لـ (القفازِ) الجلدي والصوفي, ثمّ أصبحَ تاجرًا في القطاني والحبوبِ واللحوم... وفيما بعدُ, سيفقِدُ الوالدانِ كلَّ شيءٍ, وسيضطرُّ وليمْ الذي تلقّى تعليمهُ في مدرسةِ الملكِ إدوارد السّادس, إلى العملِ فِي عامهِ الخامسَ عشرَ ليعولُ أسرتهُ. وهكذَا لمْ يمضِ في الدراسةِ إلاّ ثمانِي سنواتٍ فقطْ, لينصرفَ إلى العملِ اليوميّ فيشتغلَ - أولاً - راعي بقرٍ, ثمّ تاجرًا متجولاً للحبوِبِ واللحومِ, فكاتبًا بمكتبِ محامٍ, وفي الأخير معلمًا مؤقتًا.

وبمَا أنَّ وليمْ كانَ ذا ميولٍ فنيةٍ, يقرأ نُصوصا مسرحيةً, ويشاهدُ عروضًا منها على خشبةِ مسرحِ مدينتهِ, بلْ يشاركُ أحيانًا في الفرقةِ المسرحيةِ لمدرستِهِ, فقدْ هاجرَ إلى لندن, عاصمةِ بريطانيا, ليشتغلَ (مُلقِّنَا) و(كاتبا) بفرقةِ (إيرل لستر).

وهذَا العملُ الجديدُ, أتاحَ له فُرصا لمْ يحلُمْ بها, وفتحَ مجالاً رحبًا, ليتعلمَ التمثيلَ والكتابةَ, فأصبحَ بذلكَ رائدًا منْ روادِ المسرحِ, لا البريطاني أو الأوربيّ, وإنما العالمِي. ومازالَ حتى الآنَ يحتلُّ هذه المكانةَ الرفيعةَ, ومازالتْ مسرحياتهُ تقرأ بنهمٍ, وتمثلُ على خشباتِ المسارحِ, وتقلدُ وتقتبسُ وتلخصُ, لِما تشتملُ عليهِ منْ موضوعاتٍ ومعارفَ وخيالٍ ولغةٍ.

وبهذا الجهدِ المسرحيِّ الكبيرِ, أصبحَ وليمْ غنيّا, تأتيهِ الأموالُ منْ عروضهِ المسرحيةِ, ومؤلفاتِهِ الّتي لا تُحصى ولا تُعدُّ. هل تعرفُ, يا صديقي, ماذا فعلَ بهذه الأموالِ الطائلةِ?

لقدْ عادَ إلى مدينةِ (ستراتفورد) ليشترِيَ كلَّ أملاكِ أمّه, ومنزِلا فخْمًا يُمضي فيهِ عُطَلَهُ, وبقيّة حياتِهِ, ومازالَ هذا المنزلُ حتى الساعةِ يتحدّى الزمنَ, يذكرُ الزّائرَ والسائحَ بذلك الطفلِ الصغيرِ الذي تسلّلَ إلى الحديقةِ الغناءِ ليسرقَ غزالا, ثمَّ أصبحَ مثالاً يُحْتذى فِي الكتابةِ المسرحيةِ والتمثيلِ الّذي يعتمدُ على قواعدَ سليمةٍ.

فازَ وليمْ شكسبير سنة 1596 بجائزةِ (سلاح) وهيَ منَ الجوائزِ الّتي كانتْ لا تُعطى إلاّ للمُبدعينَ الكبارِ, تقديرا لهُمْ على عطائهِمْ الأدَبي والفنّي الرّفيع.

وفي اليوم الثالثِ والعشرينَ منْ شهرِ أبريل عام 1616 أصابتْهُ (حُمّى) حادّة, فقدَ على إثْرِها الوَعيَ. ولمْ تُمهلْهُ يوما واحِدا. ففي الرّابعةِ مساءً, لَفَظ وليمْ نفَسهُ الأخيرَ, بعدَ حياةٍ حافلةٍ بالعطاءِ الثّرِّ:

- هنري السادسُ, ملهاةُ الأخطاءِ, جهدُ الحبِّ الضائعِ, حلمُ ليلةِ في منتصفِ الصيفِ, رومْيو وجولْييتْ: 1588-1594.

- تاجرُ البندقيةِ, هنري الرابعُ, هنري الخامسُ, زوجات مرِحاتٌ: 1597-1599.

- هاملِتْ, يوليوسْ قيصرُ, كليوباترا, عُطيل, مكبثْ, الملكُ لير: 1604-1608.

- العاصفةُ, هنري الثامنُ: 1608-1611

وغيرُ هذه المسرحياتِ الرائعةِ كثيرٌ كثيرٌ...!

 


 

العربي بن جلون