ذكريات الراعي (أبو منذر)

ذكريات الراعي (أبو منذر)

 

حياة البراري جميلة لكنها لا تخلو من متاعب

قرأ العربي الصغير في كتاب المطالعة الصيفية درسًا بعنوان (الراعي والقطيع). في الدرس وصف لحياة راعي الأغنام والماعز, الذي يسرح مع قطيعه في الحقول والبراري, وبينما الماشية تأكل الأعشاب الخضراء وتمشي على مهل, يروح الراعي يعزف على نايه المصنوع من القصب, أو يغني المواويل التراثية الجميلة. وعند مغيب الشمس يعود الراعي إلى بيته, ويدخل الخراف والماعز إلى الحظيرة, ويقفل جيدا الباب كي لا يسرقها لص أو يأكلها ذئب. وفي اليوم التالي يستيقظ باكرا كي يسرح مع قطيعه من جديد, ويعيش في البراري الجميلة معظم أوقاته. راح العربي الصغير يعيد قراءة النص الجميل باستمتاع, وينظر مرارًا إلى الصورة المرسومة في الكتاب, وفيها الراعي والقطيع في البرية.

قال العربي الصغير: (يا لها من حياة جميلة! ليتني أستطيع أن أعيش يومًا واحدًا مع هذا الراعي!). في كل بلد عربي وحتى أجنبي هناك ماشية وهناك من يعتني بها ولكنها إجمالاً تربى في المزارع الكبيرة والمتطورة, أما عن الرعاة الريفيين فهم قلائل. وقد عرف العربي الصغير أن أحد هؤلاء الرعاة يعيش في قرية لبنانية اسمها برجا وعمره يناهز المائة. إن التعرف على راعٍ قضى هذه الأعوام الطويلة في البراري أمر ممتع ومفيد, لذلك فلنسارع إلى هذا الراعي ونسمع حكايته وذكرياته, ونرى كيف يعيش?

(أبو منذر) أقدم راع في القرية

يجلس أبو منذر تحت شجرة التوت التي زرعها بنفسه منذ عشرات السنوات. يأكل من ثمارها ويتفيأ بظل أوراقها, ثم يرفع (المجوز) إلى شفتيه ويعزف أجمل الألحان.

سأله العربي الصغير عن هذا المجوز فقال: (هو عبارة عن ناي مزدوج مصنوع من القصب ويصدر صوتا أقوى من الناي). وبينما هما يأكلان ثمار التوت ويشربان الشاي قال العربي الصغير إنه لو عاش في العصور القديمة لتمنى أن يكون راعي ماشية, أما اليوم فهذه المهنة تكاد تختفي, بسبب قلة المراعي والمساحات الخضراء. ولكنها - بلاشك - أقدم مهنة عرفها الانسان فمنذ وجد الانسان ربى الحيوانات ليستفيد من خيراتها.

حظيرة الماشية

بعد قليل انتقلا إلى الحظيرة. فوجد العربي الصغير أن الماشية محبوسة داخلها فسأل: (لماذا لا ترعى الماشية في الحقل?) فردّ العم أبو منذر مبتسمًا: (ستغيب الشمس بعد قليل, كما أننا لم نعد نُخرج القطيع إلى الحقول بشكل مستمر, لأن الحقول صارت قليلة, أنظر حولك ستجد البيوت والبنايات في كل مكان).

تحدث أبو منذر عن يومياته: (أستيقظ باكرًا, أستحم وأحلق ذقني, لا أحتاج إلى مساعدة أحد, قد يعتقد بعض مَن يراني أني لا أستطيع أن أخدم نفسي, ولكن هذا غير صحيح ولله الحمد. منذ زمن لم أعد أرعى القطيع في الحقل, بل أكتفي بمراقبته في هذه المساحة المسوّرة أمام الحظيرة).

وعن ذكرياته يقول: (كان والدي راعيا وكنت أرافقه منذ الطفولة. أنا لم أفكر يومًا بالاستغناء عن هذه الحياة, لقد قدّرها الله لي وأنا أحمده على كل شيء. امتلكت في الماضي أضعاف هذه الحيوانات, وكنت أقصد المناطق الخضراء وخصوصًا التي تحتوي على نبعة ماء أو نهر. ولكن كانت تمر أيام صعبة ومضنية عليّ, كأيام الحرّ الشديد, إذ كانت الأعشاب تيبس والمياه تجفّ, أما في الشتاء فكنت أنتظر أيام الصحو لأخرج, وأحيانًا تفاجئني الأمطار فيبتل القطيع ويغوص في الأوحال).

الراعي والضبع

في الماضي كانت تكثر الحيوانات المفترسة وبالتحديد الضباع وبنات آوى, والسبب أن البشر لم يكونوا كثيرين والمنازل كانت قليلة, وهذه الحيوانات تتكاثر في الأماكن التي لا يسكنها الانسان. ومن الطبيعي أن تهاجم هذه الحيوانات الخراف والماعز فهل للعم أبي منذر حكايات مع الحيوانات المفترسة?

يخبرنا عن إحدى مغامراته: (كنت عائدًا بعد عمل يوم طويل وشاق, أقفلت الحظيرة جيدا ودخلت إلى بيتي لأنام, ولكني سمعت صوتًا غريبًا آتيًا من الحظيرة فخرجت لأرى ما الأمر, رحت أبحث في المكان إلى أن وجدت حيوانًا يهرب بعيدًا, كان ضبعًا كبيرًا, لحقته بالحجارة حتى اختفى فعدت إلى البيت. وبعد قليل عادت الحركة, فأمسكت العصا وخرجت وأنا أنوي قتله هذه المرة. لمحكت حركة خلف إحدى الشجيرات وكدت أهوي بالعصا على مصدر الصوت ولكني وجدت قطة تحكّ جلدها بجذع الشجرة الصغيرة. عدت إلى البيت وصرت أضحك وأنا أتخيّل أني ضربت القطة المسكينة وأنها راحت تتوسّل إلي وتقول (أنا قطة ولست ضبعًا أنا قطة صدقني!).

يردد أبو منذر بين حكاية وأخرى بلهجته العاميّة الجملة التالية: (مرّ عليّ كتير وشفت كتير). فعلاً لقد مرت سنوات كثيرة على هذا الراعي العجوز, ولكن المدهش أن ذاكرته مازالت قوية, والجميل أنه مازال يلبس ثيابه التراثية ويحتفظ بأغراضه القديمة (العصا والمجوز....) لعل كل عربي صغير يتمنى أن يكون أبو منذر جدّه وأن يبقى بقربه يستمع منه إلى الحكايات الجميلة.

 


 

بسمة الخطيب

 




في الحظيرة مع قطيعه





لم يستغن أبومنذر عن ملابسه التراثية أو عصاه القديمة