أزهار النرجس البرية

أزهار النرجس البرية

ترجمة : طاهر بحرو
رسوم: صفاء نبعة

لم تكن سوى زيارتي الأولى للقرية, ولم أكن قد دخلتُ قرية من قبل, ولم أكن أعرف ماهي. يوماً ما قالت لي أمي وهي تصف القرية إنها مكان يواجه فيه المرء الصعاب ويشعر بالوحدة. ويومها لم أكن لأدرك سبب ما قالته أمي.

وحقا, انتابني شعور بالوحدة عند وصولنا لأوّل مرة الى القرية, ولكن بعد ذلك بدأت أتكيّف بالتدريج مع الحياة هناك, شعور خاص تغلغل في ثنايا روحي, شعور لم يتملّكني من قبل, كان منظر الجبال والغابات الخضراء قد بدّد إحساسي بالوحدة, وعبر هذه الأماكن تدفق في داخلي إحساس بلذّة المغامرة.

بعد الظهيرة كان خالي (كنتو) يأخذني إلى التلال القريبة من منزل العائلة, وكان ذلك مكانًا مناسبًا لاستنشاق الهواء النقي, ولرؤية الطيور وهي ترفرف محلّقة فوق رءوسنا.

كان خالي يحمل معه دومًا بندقية الصيد القديمة, وكنت أعلم أنه يصوّب بها بشكل جيد.

- (ما هذا...?).

- (إنه ريش أحد الطيور...).

- (وهل يوجد سمك في النهر?).

- (بالتأكيد).

- (وأيّ نوع من السمك?).

- (كل الأنواع).

كان خالي من النوع الذي يعطي إجابات مقنعة عن أسئلتي, ولقد دار في خلدي أنه ربما كانت أسئلتي مزعجة له مع أنه كان يعنى بي, ومن تحصيل الحاصل أن أتعلّق به إذ لم نكن لنفترق, ذاهبين عائدين معًا لأماكن عدة حتى أنني لحظت علامات غيرة في عينيّ أمي!

بعد الظهيرة بقليل خرج خالي متجهًا للمدينة قاصدًا المحامي لأمور تتعلق بمُلك للعائلة, ولذا اضطررت أن أمضي وحيدًا باتجاه القرية.

عندما غادرت المنزل كانت والدتي تقف بمحاذاة النافذة وهي ترمقني بنظرة غائمة, وكنت أتمنى لو أعرف لمَ كانت على مثل تلك الحال, ربما لافتقادها والدي أو لأنها وجدت القرية كئيبة. كان ذلك يومًا طيبًا, الشمس مرتفعة لخمس وأربعين درجة من فوق التلال, الريح القادمة من الجنوب لطّفت من حرارة المكان, دلفت تحت ظلال النخيل, كنت أبحث عن شيء ما, لست أعرفه بالضبط, كان المدى مفتوحًا أمامي لمسيرة أطول, توقفت متأمّلا المنظر من حولي, مجموعة من أطفال القرية يلعبون عن يميني, كانوا يضحكون ويصبّون الماء على وجوه بعضهم البعض.

- (هل ترغب في الانضمام إلينا?).

تساءلت فتاة صغيرة بشعر طويل متموّج, نظرت إليها مباشرة, لكنني لم أجد ما أجيبها به.

كانت ترتدي ثوبًا ورديًا مخطّطًا وتبدو ضئيلة الحجم, عيناها صافيتان, بأهداب مقوّسة جميلة ولها أنف مستقيم حادّ, وعندما ابتسمتْ بدت أسنانها بيضاء متراصّة, وكانت تبدو أليفة للغاية.

- (واصلوا لعبكم), قلت لهم محاولاً الإيحاء بقدر من الاتّزان.

- (أتراك تخاف الماء?).

- (كلا....).

- (إذن لم لا تنضمّ إلينا?).

عندما قالت كلمتها هذه, سرتُ ببطء نحوهم, لم أكن خائفًا من الماء ولم أكن أرغب في المغامرة أيضًا, رحّبوا بي بابتسامة جماعية.

- (ماذا تلعبون?).

- (الألعاب كلها...) أجابت الفتاة.

وبينما أنا جالس غير مطمئن تمامًا, جذبتني الفتاة الصغيرة من يدي وبدأنا اللعب. ورغم أنني كنت خائفًا في البداية إلا أنّ جاذبية الأطفال وألفتهم جعلتني متفاعلاً معهم, صرت وكأنني واحد منهم وأعرفهم منذ زمن. خضت معهم في الطين وابتلّت ملابسي كليّا, كنت متفاعلاً كليّا معهم, كانت حماستهم للعب عالية على عكس أطفال مدينتي الذين كانوا على الدوام يتظاهرون بالمرح, بينما هم مقيّدون وغير متفاعلين في لعبهم.

أمي ستستاء لرؤية ملابسي قذرة وملوّثة بالطين, في المدينة لا نستطيع أن نتمتع بهذه الحرية, وفي المدينة قد أتعرّض للأذى إن ابتعدت كثيرًا وأنا ألعب وقد تدهسني سيارة, هنالك محدّدات كثيرة, أما في القرية فإنك حرّ أن تلعب أي لعبة.

لعبنا كل أنواع اللعب وطارد بعضنا بعضًا, وسكبنا الماء على وجوه بعضنا البعض وقفزنا إلى الماء, وعندما شعرنا بالتعب جمعنا الأغصان من البركة القريبة وبنينا أنفاقًا للضفادع. وبالنسبة لي فقد بنيت ثلاثة أنفاق حسنة البناء, لكنّ الفتاة الصغيرة هدمتها جميعًا وشعرت بسبب ذلك بالانزعاج لكنّ تصاعد ضحكتها سريعًا جعلني أنسى غضبي, كانت طفلة شجاعة ومميزة وكثيرة المشاكسة.

- (أنت فتاة مشاكسة) قلت لها.

- (وأنت كذلك...) أجابت.

- (لماذا?).

- (لأنك طاردتني).

- (وأنت خرّبت أنفاق الضفادع التي بنيتها).

- (م...م... حيثما كنت تلعب... ابق في مكانك... موافق?).

فجأة قفزت في البركة وظلت تخوض حتى وصلت إلى جذع شجرة ساقطة ثم ما لبثت أن انتقلت بواسطتها إلى جزيرة صغيرة في وسط تلك البركة.

- (احذري)... ناديتها وأنا أرقب محاولتها موازنة نفسها وهي تتقدّم على جذع الشجرة.

- (لا خوف)... قالت لي.

واصلت سيرها حتى نهاية الجذع, كنت خائفاً عليها حقًا.

كانت البركة عميقة وأظنّها ستغطس فيها فيما إذا سقطت.

قفزت باتجاه الجزيرة الصغيرة التي كانت تغطيها الزهور, ثم ما لبثت أن توارت في الجانب الآخر من البركة. تساءلتُ ما الذي ستفعله?, لكنها ما لبثت أن ظهرت, ثم تقدمت نحوي وبيدها باقة من الزهور, كانت زهورًا كبيرة الحجم بل إنها بحجم زهور فستان أمي, ودون أن آخذها منها مددت يدي باتجاه الزهور.

(آه.... يا لها من أزهار جميلة.. ما اسم هذا النوع?).

(لبوميا ويسموّنها أيضًا زهور الياسمين البرّية).

(رائحتها زكية. لكني متيقن أنها ستذبل).

(ضعها في إناء مملوء بالماء وستعيش).

أخذت باقة الزهور ووضعتُها عند ركن شجرة من الأشجار وأعدت بناء أنفاق الضفادع مجدّدًا, لكن الفتاة لم تخرّب أيّا منها هذه المرة, بل بالعكس ساعدتني لبناء المزيد, بنينا جدرانًا حول الأنفاق بحيث بدت وكأنها قلاع بحق.

(جميلة أليس كذلك?) تساءلت الفتاة.

نظرت إلى عينيها البرّاقتين بينما كنت أبني ممرّاً يقود الى القلعة.

طفل صغير في حوالي السابعة من عمره انضمّ إلينا, كان حادّا في تعامله معي وحتى مع الفتاة, كان اسمها (سو) إذ ما إن ناداها باسمها حتى تقدّمت بثبات نحوه, وهنا فقط عرفت اسمها. كانا يتكلّمان, لكنني لم أتبيّن ما كانا يقولانه. كان ينظر نحوي بحدّة لذا شعرت بالقلق وعدم الراحة رغم أنني كنت أكبر منه بسنة أو سنتين.

(أمي تريدني أن أعود للمنزل) قالت الفتاة. وابتسمت لي ثم ما لبثت أن اختفت ولم أرها بعد ذلك, وعلمت فيما بعد أن ذلك الفتى كان أخاها من أبيها وأن لها زوجة أب قاسية, ولم يكونوا يسكنون بعيدًا عن تلك التلال الحجرية الجميلة.

تفرّقنا عندما بدأت الشمس بالمغيب واختفت بالتدريج خلف التلال, فيما كانت الطيور تنادي بعضها بعضًا.

في ذلك المساء, نمت عميقًا لأنني كنت متعبًا تمامًا. وضعتُ الزهور في إناء فيه الماء, وقريبًا من وسادتي, كنت أنشدُ الهواء إذ كنت تعرّقتُ وأنا نائم لكنني صحوت رائقًا مأخوذًا إلى عبق الزهور.

وبعد أن أمضينا يومًا واحدًا في القرية حان وقت العودة للمدينة, هكذا قررت أمي, إذ قطعت زيارتنا القصيرة هذه وأصرّت على العودة رغم محاولة خالي وخالتي إقناعها بالعدول عن ذلك.

استيقظنا مبكّرًا استعدادًا لرحلة العودة, الخال (كنتو) أعدّ لنا بعض اللحوم المطهية المتبلة والرز والبيض متاعًا للطريق. شعرت أن خالي كان مُكرهًا على قبول أمر عودتي. وكنت أبادله الاحساس, لكن لم يكن بيدي ما أستطيع فعله. والدي بالانتظار وكذلك أمر دراستي هو الآخر يجب أن أفكر فيه.

وصلت سيارة الأجرة في وقتها. وانطلقت ببطء في البداية ثم ما لبثت أن زادت سرعتها, وسرعان ما توارت القرية عن الأنظار. التفتُّ إلى الخلف كان الغبار المتصاعد يحول بيني وبين رؤية معالم القرية. فجأة شعرت بأنني ضائع وتعيس وبدأ قلبي يخفق بسرعة.

تُرى لِمَ أشعر بالحزن?

لمَ أشعر بالوحدة?

كأنني فقدت شيئًا ما, كأنني خلّفت شيئا ما هناك, لكن ما لا أستطيع معرفته هو... ما الذي فقدتُه وما الذي تركته هناك حقًا?

وشعرت بأن قلبي قد هدأ أكثر عندما وصلت السيارة إلى الطريق الرئيسي. كنت صامتًا ولم أكن لأركّز على الحوار مع أمّي, تطلعتُ إلى الخارج عبر نافذة السيارة وكأنني أراقب شيئًا ما.

لماذا ينتابني إحساس من هذا النوع?

ما هذه الوحدة?

كنت أرى الأشجار وأعمدة الهاتف تتهاوى مع ازدياد سرعة السيارة.

- (لا تبدو سعيدًا للعودة...) قالت أمي.

- (إنني متعب).

وكنت أنتظر أن تجلب هذه الإجابة الصمت لأمي فأسئلتها ونقاشها كان يشوّشني, لذا أدرت رأسي مرّة أخرى ورحت أواصل النظر عبر نافذة السيارة.

ولكن فجأة استدار رأسي ليواجه أمي...

- (متى سنعود مرة أخرى...?).

- (لن نعود مرة أخرى...) أجابت وهي تعقد المنديل على رأسها.

- (لماذا...?) سألتها محتجّا.

- (لأنني حسمت قضية تخص الأسرة, وكلفت خالك (كنتو) لإتمام الأمر).

وبرقت عيناها وابتسمت. بقيت صامتًا فكلمات أمي زادت إحساسي سوءًا, نظرت للأسفل, استقرّت عينايّ على آنية الزهر في داخل حقيبة السفر, ذبلت الأزهار, وتويجاتها تناثرت.

فجأة, انسابت الدموع على خديّ, وتساقطت وبللت الأزهار, وكأنها بدأت تشكّل وجه (سو) على وريقات النرجس البرية.
----------------------

* المؤلّف (بحر الدين قهار), ولد في ولاية (بيرا) على الساحل الغربي الماليزي سنة 1946 وأكمل دراسته في ولاية إيبو وعمل في سلك التعليم في مسقط رأسه. بدأ النشر منذ الستينيات ونال جائزة القصة القصيرة في ماليزيا عام 1976. له عدة مجموعات قصصية منها (Kampung Halaman) التي صدرت سنة 1982. وهذه القصة مأخوذة منها. (المترجم).

 

 


 

بحر الدين قهّار