واحة الفن الجميل

واحة الفن الجميل

السفير العاشق للتشكيل!

يشاهد أعماله: عزالدين نجيب

يحدثنا التاريخ عن سفراء لبلادهم في دول أجنبية, جعلوا من فن الرسم رسالتهم الأولى في الحياة, من أشهرهم الفنان الألماني (روبنز) والفنان الفرنسي (ديللا كروا), ومنهم من ضحى بمنصبه الدبلوماسي الرفيع كي يتفرغ للفن, مثل رائد فن الرسم المصري محمد ناجي (195601888), وقد حقق كل منهم لنفسه مكانة عالمية بموهبته وطموحه الكبير.

وآخر السفراء الفنانين في مصر هو (يسري القويضي), الذي التحق بقسم الدراسات الحرة, بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام1961, تعويضًا عن حرمانه من الالتحاق بالكلية كطالب منتظم, تلبية لرغبة والده في التحاقه بكلية نظرية تؤهله لوظيفة مرموقة في المجتمع, ولم يكن الفن آنذاك بابًا يؤدي إلى مثل تلك الوظائف, وبالفعل التحق الشاب (يسري) فور تخرّجه بالسلك الدبلوماسي عام 1962, وعمل بسفارات مصر في عواصم عدة بدول العالم, وأخيرًا عيّن سفيرًا في هراري ثم أصبح مساعدًا لوزير الخارجية عام 1999, وما أن بلغ سن التقاعد عام 2000 حتى تفرغ للفن, لكنه خلال سنوات عمله وترحاله لم ينقطع عن ممارسة الرسم والتشكيل بالخامات المختلفة, وعن إقامة المعارض الفردية والمشاركة في المعارض الجماعية بمصر وخارجها.

إلا أن ما أنجزه خلال تفرغه في السنوات الثلاث الأخيرة يعد أضعاف إنتاجه طوال الفترات التي سبقتها, والأهم من ذلك أنه حدد خلالها هدفه وأسلوبه الفني, فبعد أن كان يصوّر مناظر الطبيعة في البلاد التي عمل فيها بأسلوب واقعي أو انطباعي, بالألوان الزيتية أو المائية, أو كان يرسم تكوينات (للطبيعة الصامتة) من بعض الفاكهة أو أدوات المائدة, بأسلوب يقترب من التكعيبية أو التجريدية, انصرف في الفترة الأخيرة إلى التشكيل بمكعبات صغيرة يصنعها من الورق بأشكال وألوان مختلفة, ويلصقها متجاورة على سطح اللوحة, مكوّنا منها تكوينات هندسية مجردة, تسمح لكل مشاهد بأن يستوحي منها المعنى أو الاحساس الذي يتوافق معه, فيمكن أن تراها كبيوت متراصّة, أو كتخطيط عمراني لمدينة من منظور عين الطائر, أو كإيقاعات موسيقية متناغمة بترديد شرقي منتظم, أو كتعبير عن روح العصر التي تغلب عليها النزعة الاستهلاكية والدعاية عن السلع بطريقة جذابة.

غير أن الهدف الأساسي له من تنفيذ هذه اللوحات المجسّمة, هو إقامة تصميم جمالي مركب, يبلغ درجة عالية من التناسق والتوازن والتناغم اللوني, يحاكى اتجاهات الفن التجريدي الحديث في العالم خلال القرن العشرين, مقتنعًا بأن وظيفة الفن ليست طرح الأفكار والمعاني, أو التعبير عن هموم الحياة, بل على العكس من ذلك, فإنه يرى أن رسالته هي التخفيف من هذه الهموم, بإضفاء لمسة جمالية تلطف من حدة الصراعات التي تجتاح عالمنا المعاصر, وابتكار عمل مثير للدهشة والخيال, يتيح للمشاهد أن يتواصل معه بحواسه الصافية, وأن يستشف منه ما يشاء من انطباعات ورؤى, وقد استعان في تنفيذه بمواد وأشياء لا نلتفت إليها في حياتنا اليومية, بل نلقيها في سلة المهملات, مثل العلب الورقية الفارغة للمشتريات, وملصقات الإعلانات الملونة, وأزرار الملابس, وأعواد الثقاب, والزجاجات البلاستيكية, وقصاصات ورق الأشغال الفنية للتلاميد, وغير ذلك, إضافة إلى استخدامه للفرشاة والألوان في وضع لمسات متفرقة خلف أو حول أو فوق تلك العناصر البارزة فوق سطح اللوحة.

وفي معرضه الأخير الذي أقامه في مدخل محطة الأوبرا بمترو الأنفاق في القاهرة, حيث يمر عليه آلاف المواطنين كل يوم عند دخولهم أو خروجهم, جعل الفنان (القويضي) من زجاجات المياه البلاستيكية الفارغة البطل الرئيسي في تشكيل لوحاته, فتلاعب بها في تشكيلات رأسية أو أفقية أو متعاكسة, واستقطع من بعضها الأجزاء العلوية جهة الفوهة, ورصّها متجاورة أو متباعدة في تكوينات هندسية, وملأ بعضها الآخر بمكعبات صغيرة من الورق الملون, حتى أصبحت جميعا كبديل للأشخاص, فكأنها تتحاور وتتهامس, وقد نتصايح بألوان زاعقة!

وهذا الأسلوب الفني ليس من ابتكاره, بل هو اتجاه فني شاع في أوربا منذ أول الستينيات تحت اسم (بوب آرت Pop Art) أو فن الجماهير, بل إن جذوره ترجع إلى العقد الثاني من القرن العشرين مع حركة (الدادية) حيث استخدم فنانوها أشياء سابقة الصنع من مهملات ونفايات الحياة اليومية.

غير أن هذه الحركات الفنية وغيرها تعد فروعًا من المدرسة التجريدية التي سادت دول الغرب على امتداد أكثر من نصف القرن الماضي. لأن تلك الدول بلغت من الرفاهية الاقتصادية والثقافية حّدا جعل الفنان يبتعد عن التعبير عن الأفكار السياسية أو الرسالات الإصلاحية, ليقتصر دوره على تجميل الواقع أو إثارة الدهشة ولفت الأنظار بالأشكال الغريبة والرؤى المبتكرة.

لكن فناننا (يسرى القويضي) يسعى من وراء أعماله تلك إلى أن تصبح (موسيقى بصرية), ودافعا لإثارة الدهشة والفضول وطرح العديد من الأسئلة, وهو يعتقد أنه بذلك قد ينجح في إشعال شرارة التفاعل بين المشاهد والعمل الفني.

ما رأيك - يا صديقي القارئ - في أن تجرب بنفسك عمل لوحة بهذا الأسلوب? أظن أنك ستخرج بنتائج باهرة تحمل شخصيتك الخاصة!