قصة من الأرجنتين.. رسالة سلام

قصة من الأرجنتين.. رسالة سلام

ترجمة: د. طلعت شاهين
رسوم: حلمي التوني

وصلت الدعوة قبل أيام من موعدها, وفي أسفلها كانت تحمل توقيع الثعلب (السيد خوان), شك البعض فيها منذ البداية, لأنهم كانوا يعرفون ألاعيبه المتكررة, ومقالبه كانت معروفة وتعتبر جزءا من الحكايات المسلية في الجلسات العائلية في الجبال والوديان والنهر.

كل من وقفوا في طريق الثعلب السيد خوان نالتهم بعض مقالبه, ولهم معه ذكريات غير محبوبة, فهو معروف بحبه للمشاكل ونسج المزاح السخيف, من ضحايا سخافاته الكلب والحية والنمر وحتى السحلية, وكل من دخل معه في شراكة كانوا دائما من الخاسرين.

الثعلب السيد خوان معروف بثرثرته, ومعروف أنه يخفي ألاعيبه خلف ابتسامته الماكرة.

بسبب كل هذه المشاكل شكت الحيوانات في دعوته.

إلا أن وجود توقيع الثور إلى جانب توقيع الثعلب, غير من موقف الحيوانات من الدعوة, لأنهم كانوا يعرفون أن الثور طيب ولن يقبل مشاركة الثعلب في ألاعيبه, فالثور معروف بخصاله الحسنة: فهو هادئ, ومحب للعدل, وتحت ظلاله تلعب الحمامات والعصافير, وتصايحهم من حوله يفرح قلبه كما لو كان جدا عجوزا. من المؤكد أن توقيع الثور على الدعوة إلى جانب الثعلب جاء بعد تفكير طويل, وربما قضى الثور أياما وليالي طويلة يفكر في صمت الحقول قبل أن يوقع باسمه على الدعوة, فالثور معروفة عنه هذه الخصال.

فكر البعض أنه ربما خدعه الثعلب, فهو لن يعدم الحيلة للتحايل على طيبة قلب الثور, إلا أنهم كانوا يعرفون أن الثور ليس بالسذاجة التي تجعله يشارك في خداع أحد قبل أن يستمع ويفكر جيدا.

وبما أن الدعوات كانت تحمل توقيع الثعلب والثور فقد قالت جميع الحيوانات: (لا بد لنا من الذهاب لاستطلاع الأمر, من المؤكد أن الدعوة خاصة بأمور جادة), لم تكن الدعوة تحمل سوى موعد ومكان الاجتماع.

لم يكن هناك ما يدل على وجود خطر, فلا يسمع في الغابة أي صوت سوى مرور الرياح على سطح النهر.

جلس الثعلب والثور في الوسط, وأحاط بهما ممثلو جميع الحيوانات الأخرى الذين جلسوا على شكل دائرة, كانوا جميعا هادئين صامتين, كان يسيطر عليهم حب الاستطلاع لمعرفة الأمور التي سيناقشونها.

بدأ الثعلب السيد خوان كلامه بالقول:

- اخوتي, أنا لست أفضل من يرأس هذا الاجتماع, أنا أعرف هذا جيدا, وبين الحاضرين من هو أفضل مني للجلوس على هذه المنصة الجميلة, لكن فلنترك هذا الآن, هذه ليست مناسبة للحديث عن خصال أي منا, ولنبدأ في مناقشة أمور تهمنا جميعا على حد سواء, نحن نعيش في حرب دائمة بيننا, ولم نعرف لحظة سلام واحدة, نحن لا نتحدث إلا عن الأصدقاء والأعداء, والأقوياء والضعفاء, نهاجم بعضنا أو ننتظر أن يهجم أحد علينا.

توقف الثعلب لحظة عن الكلام, وحرك الثور رأسه الثقيل بعلامة الموافقة على كلام الثعلب, بعض الطيور اقتربت اكثر من المنصة لتنصت جيدا لكلام الثعلب.

قال الديك الرومي للقرد الجالس إلى جواره: إنه يتحدث بسرعة فلا أستطيع أن أفهم ما يقول.

قبل أن يجيب القرد على الديك الرومي واصل الثعلب كلامه:

- نعم يا أخوتي.. نحن نعيش في خوف دائم, لا نثق في أحد, هذه هي الحقيقة, أعرف أن هناك من يشك في صدق كلامي, وان هناك من يحمل لي ضغينة بسبب مقالبي السخيفة, لكن أؤكد لكم أنها لم تكن سوى مقالب لا أكثر, الحقيقة. إنني فعلت بعض المقالب, ولا أكذب عليكم لو أنني قلت لكم إنني الآن نادم على ذلك.

توقف الثعلب من جديد عن الكلام, لم يحرك الثور رأسه هذه المرة, وحرك النمر حاجبه متعجبا, ونظر الآخرون إلى بعضهم البعض في شك.

قال الديك لجاره القرد:

- أنا لا أفهم أي شيء.

عاد الثعلب إلى الكلام من جديد وقال:

- علينا أن ننسى خلافاتنا القديمة, وأن نسدل ستارا على الأيام الماضية, نحن هنا في هذا العالم ليحب بعضنا البعض, وليساعد كل منا الآخر, لماذا كل هذا الصراع? لماذا كل هذه الحرب بلا هوادة? ملاحقة الضعيف أو الهروب من القوي, نحن نعيش في حرب دائمة, لا يا أخوتي, لا, يجب أن ينتهي كل هذا, كل منا له حق الحياة في هدوء واطمئنان, فلتنته منذ اليوم كل الصراعات, ولنبدأ الحياة في سلام, فيحترم كل جار جاره, ولن تكون هناك حرب بيننا بعد الآن.

تقدم النمر خطوة إلى الأمام وقال:

- أستأذنكم في الحديث, حتى نعيش في سلام لا بد من القضاء على الإنسان.

صفق الحاضرون إعجابا بكلام النمر, وهتف بعضهم:

- الحرب ضد الإنسان.

اقترب الكلب من النمر بسرعة وهو يعرف أنه يخاطر بنفسه, رفع الكلب رأسه وقال:

- أريدكم أن تستمعوا إلي, أنتم لا تعرفون من هو الإنسان, جبهتي وظهري يشهدان بحنان يد الإنسان, أنا رأيته يبكي حزنا على موت عصفور, أنا أعرف ما أقول, ربما لهذا السبب عشت حياتي كلها بجواره, وبرفقته, لماذا لا نرسل إليه رسالة سلام? من المؤكد أنه سيستقبلها بفرح كبير, وبقلب مليء بالسعادة.

قاطع الأسد الكلب, قائلا:

- لا, أنت حسن النية, أنت لا تعرف الإنسان, إنه أناني وشرير, يعتقد أنه ملك المخلوقات جميعا.

تدخلت البومة قائلة:

- التحالف مع الإنسان لا فائدة منه, إنه متعال, يقول إن غنائي في الليل نذير شؤم, ويحكي عني أساطير كاذبة.

أضاف الجحش:

- إنه يختلق الحكايات..

وقالت السمانة:

- ويصنع البنادق والبارود الذي يصطادني.

وقالت النملة:

- إنه يدمر منازلنا.

وجد الكلب نفسه وحيدا في مواجهة الجميع ضد الإنسان, وكل واحد له أسبابه, تحدثت الحية وتحدثت الغزالة, وكذلك الدب, والأرنب أيضا, كان الكلب يستمع إليهم جميعا في صمت, وفهم أنهم يشكون من الإنسان بصدق.

فجأة نطق الحصان فقال:

- يبدو أنكم لا تعرفون الإنسان, لقد قال الكلب حقيقة كبرى, إنه شاهد الإنسان يبكي لموت عصفور, وهذه حقيقة, وأنا شاهدت الإنسان يبكي لموت كلب, أو لموت خروف صغير, وشاهدته ينزع شوكة من قدم نمر أرقط.

تدخل النمر الأرقط الذي كان حاضرا الاجتماع وقال:

- ربما نزع شوكة من قدم نمر أرقط مروض.

لكن الحصان واصل كلامه:

- لا, لم يكن نمرا أرقط مروضا, كان النمر الأرقط سقط من منحدر وعندما شاهد الإنسان كشر النمر الأرقط عن أنيابه وهم بمهاجمة الإنسان, وعندما نظر في عينيه اكتشف أنه لا يقف أمام عدو, وعندها بدأ في تقبيل يديه.. ويدا الإنسان كانتا تنزعان عن قدمه شوكة شكتها!

الإنسان, نعم أنا أعرف من هو الإنسان, وأحبه وأتبع خطواته, وطيبة قلبي ناتجة عن حنانه في تعامله معي, يجب أن تعيش مع الإنسان لتتعرف عليه, وتحبه, يجب الإحساس برقة يديه, وحنان صوته, أنا الذي حملته في رحلاته الطويلة, وسمعته يبكي, ويغني ويضحك, وأعرف كل ما يحمله في قلبه, وأعرف أنه سيفرح كثيرا عندما تصله رسالتنا للسلام معه.

وافق الثور الحصان على كلامه قائلا:

- عندك كل الحق, يجب أن نرسل للإنسان رسالة سلام.

قال الكلام نفسه كل من الحمامة والقرد والثعلب, فتحدث الحصان من جديد, لكن البومة والحية واصلتا إذكاء نار الحرب ضد الإنسان, وحاولتا استمالة النمر والنسر والأسد, وجرى نقاش طويل, وأخيرا توصلوا إلى اتفاق, فقد أثرت في النهاية كلمات الكلب في الحاضرين.

فعاد الثور إلى تكرار كلمته:

- يجب أن نرسل للإنسان رسالة سلام.

وقال الثعلب:

- هذا ما يجب أن يكون.. لكن من منا يحمل تلك الرسالة إلى الإنسان?

كانت صعوبة اللغة أخطر ما يواجه التعامل بين الحيوانات والإنسان, فلم يكن أي من الحيوانات قادرا على توصيل الرسالة للإنسان, والإنسان لن يستطيع أن يفهم لغة الحيوانات, فكروا في البداية في العصافير, وبعدها فكروا في الحصان, والكلب, وحتى القرد.

تحدثت الحية إلى الكلب متهكمة:

- أنت, يا من تعرف الإنسان جيدا, من تعتقد يمكنه أن يوصل رسالتنا إليه?

فكر الكلب لبعض الوقت, ونظرا لطول تفكيره تساءلت الحية ساخرة:

- من?

أجاب الكلب:

- إنه الجندب.

تساءلوا جميعا:

- الجندب?!

فقال الكلب:

- كل ما عليه هو أن يغني ليلا.

اتجهت كل الأنظار إلى الجندب, وطلبوا منه جميعا أن يغني, وبدأ الجندب في الغناء.

كانت موسيقاه رائعة, عندما استمعوا إليه شعروا بالرقة تغزو قلوبهم.

توصل الجندب إلى ترجمة رسالة السلام إلى موسيقى يعزفها بوتره الوحيد, كان يغني وهو يفكر في السلام, وفي تناسق العالم, والإخاء الكامل.

لا شك في أن الإنسان سيكون سهلا عليه فهم هذه الموسيقى.

تم تكليف الجندب بحمل رسالة السلام إلى الإنسان.

منذ ذلك اليوم, ولسنوات طويلة مضت, والجندب يغني, يغني بحب شديد, يظل طوال النهار كامنا حتى يأتي الليل ليبدأ أغنيته, ويظل يغني طوال الليل تحت نوافذ الإنسان, وعلى جوانب شواطئ الأنهار, وفي الحقول, وفي الطرقات, وفي الشوارع, وحتى في حدائق المدن الكبرى. لكن لا أحد يفهم رسالته التي يغنيها.

يغني وسيظل يغني بلا فائدة.

في بعض الأحيان يقف بعض بني الإنسان وينصتون لسماع أغنية الجندب, ويشعرون بشيء غريب, شيء عميق يدعوهم إلى المحبة والحنان, بعد ذلك تتعالى أصوات أخرى تغطي على صوت الجندب.

لكنه يظل يغني موسيقاه الساهرة, يغني حتى يطل الفجر, بعدها ينام الجندب ويحلم بعودة الليل, وأن تصمت أصوات العصافير وأن تظهر النجمات الأولى في السماء, ليفهم الإنسان رسالة السلام التي يحملها غناء الجندب.

وهكذا, مع كل مساء يبدأ الجندب بهمة فتح صندوق موسيقاه المتواضع ويبدأ في غناء رسالة السلام التي تبعثها الحيوانات إلى الإنسان.

 

 

 


 

خافيير فيفانيي