قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

موفق الدين يوسف.. ألم التعلم.. ولذة العلم

رسوم: ممدوح طلعت

وقف الصغير (موفق الدين يوسف) أمام أستاذه العجوز, منبهرًا, وسأله:

- (أريد أن أكون مثلك, عالمًا كبيرًا...فماذا أفعل...?

ابتسم العجوز, وقال:

- الطريق طويل... لكنه ليس من المستحيل... أولا... احفظ القرآن الكريم. ردد الصغير:

- احفظه عن ظهر قلب.

ربت العالم العجوز (ابن الأنباري) على كتف تلميذه, وقال:

- اذن عليك حفظ أدب الكاتب ابن قتيبه.

ردد الصغير:

- لقد فعلت ذلك يا سيدي...وأكاد أن أنتهي منه...

قال العالم العجوز (ابن الأنباري):

- واقرأ (الايضاح)...من تأليف الفارسي...

وبكل لباقة أكمل الصغير (موفق الدين):

- وقرأت (الكامل) للمبرد...و(الكاتب) لابن درستويه...و(الأصول) لابن السراج...و....

وراح يستعرض أمهات الكتب في القرن الثاني عشر الميلادي التي قرأها...مما أثار دهشة أستاذه الذي نصحه قائلاً:

- عليك أن تذهب إلى مصر, وأن تلتقي علماءها...

وقرر موفق الدين يوسف المعروف باسم (البغدادي) أن يرحل إلى مصر, مع أول قافلة, وأعد كتبه كي يأخذها معه, وطالت به الرحلة إلى أن وصل إلى القاهرة.

وكان في السابعة عشرة من العمر, عندما وصل إلى مدينة العلماء, وقبل أن يستقر به المقام سأل عن عالم الكيمياء الشهير (ياسين السيميائي) وما إن التقاه حتى حدّثه عن الكتب التي قرأها, وعن أستاذه (ابن الأنباري) وعن طريق هذا العالم تقابل الشاب الصغير مع بقية علماء مصر.

في تلك السنوات, كان الناس يشاهدون شابًا يتجوّل بين أحياء المدينة, يتأمل ويكتب ويرسم, وعندما سأله أحدهم عم يفعل, أجاب:

- سوف أؤلف كتابًا أصف فيه مصر...

لكن (موفق الدين) لم يستكمل تأليف كتابه, حيث قرر الرحيل إلى بيت المقدس لمقابلة الناصر صلاح الدين الأيوبي, كي يهنئه على انتصاره على الصليبيين, وهناك كان اللقاء حارًا, وطلب منه القائد العربي الشجاع أن يظل معه, كي يستفيد مما لديه من العلوم والمعارف, فأخذه معه إلى دمشق, وأقام هناك بعض الوقت, تعمق فيها في علوم الكيمياء, ووصف الأشياء...

وقرر (موفق الدين) أن يعود إلى مصر لاستكمال تأليف كتابه في (وصف مصر)...وهناك صار مدرسا للعلم في الأزهر الشريف, قام بتدريس علوم الكيمياء, والطب, في أوقات فراغه, كان يستكمل تأمل أحوال الناس, والمباني التي يعيشون فيها, وما تركه الأقدمون من آثار مثل الأهرامات الثلاثة الغامضة, وأيضا القناطر المتعددة التي أسسها الحاكم العادل (قراقوش)...

وقرر (موفق الدين) أن يرحل إلى كل أنحاء مصر, من أجل أن يستكمل تأليف كتابه الفريد عن (وصف مصر).

وصف (عمود السواري) بالاسكندرية بأنه يكاد يقترب من السحاب.

واندهش من روعة المعابد, والهندسة المعمارية التي استُخدمت في بناء معابد الأقصر وأسوان.

ورحل إلى الصحراء, ووصف الحيوانات, والنباتات, وخصص فصلا عن الأسماك المصرية, وأوصافها, كما تحدث عن تماسيح النيل, وفرس النهر.

واستغرقت رحلته سنوات طويلة, ثم بدأ في مرحلة الكتابة النهائية.

وجاء كتابه (وصف مصر) عام 1153م مرجعًا وافيًا عن مصر, استفاد منه العلماء في كل تخصصات المعرفة, في الجغرافيا, وعلم النبات, والآثار, والتاريخ, والعلوم الاجتماعية, بالإضافة إلى علوم الحيوان, والطب.

وما إن انتهى من تأليف الكتاب, حتى قرر الرحيل إلى بلاد أخرى.

عاد إلى دمشق, وقرر البقاء فيها لبعض الوقت.

في دمشق, التقى, ذات يوم, شابًا مليئًا بالحيوية, سأله:

- يا أستاذي...أريد أن أكون عالمًا كبيرًا...

قال (موفق الدين):

- احفظ القرآن الكريم...و...

وسرد عليه النصائح القديمة نفسها التي سمعها منذ سنوات من الأستاذ (ابن الأنباري) ولما عرف أن الشاب استوعب الدرس جيدًا, ردد له قائلاً:

- وهذه نصيحتي الخاصة:(لا تأخذ العلوم من الكتب وحدها, فمن لم يعرق جبينه من العلماء, ما استفاد الناس منه.

ثم سكت, وقال بكل ثقة:

- ومَن لم يحتمل ألم التعلم لم يذق لذة العلم.

 


 

محمود قاسم