واحة الفن الجميل

واحة الفن الجميل

النحات محمود موسى..

شاعر الجرانيت!

يشاهد أعماله: عزالدين نجيب

من منا لم تداعب أصابعه قطع الطين والصلصال في طفولته, ليصنع تمثالا من واقع الحياة والبيئة? إن حب الفن - وهو قبس من روح الله - شعور أصيل في نفس كل إنسان, وإذا اختفى هذا الشعور بداخله فإنه يفقد عنصرا أساسيا في تكوينه النفسي, إلى أن يجد من يوقظه ويكشف له سر جماله ويشبع حاجته إليه.

وفن النحت ظهر على الأرض مع رجل الكهوف, في محاولته لفهم الكون, وفي الحضارة الفرعونية اتخذ المصري من أصلب الصخور مادة لتماثيله, متضمنة معاني الإيمان والخلود, تمهيدا للبعث بعد الموت, ليعيش في سلام أبدي في العالم الآخر, لهذا صمدت هذه التماثيل حتى اليوم وهي تتحدى الزمن عبر آلاف السنين.

وآخر النحاتين العظام في العالم العربي كان (محمود موسى), الذي رحل عن عالمنا منذ شهور عن عمر يناهز تسعين عاما, إنه سليل أجداده المصريين القدماء, في تحديه للصخر وقدرته على تطويعه للتعبير عن أنبل المعاني وأرق المشاعر, وهو يعد استمرارا لرائد النحت الحديث في مصر.. محمود مختار (1891 - 1934) في اتخاذه من الأحجار الصلبة كالجرانيت والبازلت مادة لصنع تماثيله, وفي تعبيره عن الروح المصرية الأصيلة, متأثرا بقيم النحت المصري القديم.

ولكي نعرف مدى صعوبة النحت المباشر في الأحجار الصلبة, فإننا نذكر أن عدد من يمارسونه الآن في مصر لا يتعدى أصابع اليد الواحدة, وليس السبب هو المجهود الشاق وحده الذي يتطلبه الحفر بالإزميل في الكتلة الحجرية, بل فوق ذلك فإن على النحات أن يحذف منها كل الزوائد الممكنة حتى يكتشف بداخلها النموذج الفني الكامن في خياله, ولا يستطيع أن يضيف إليها أي إضافة من خارجها مثلما يفعل النحات بالطين, حيث يحول تمثاله الطيني في النهاية إلى قالب يصب من خلاله عدة نسخ من الجبس أو البرونز أو أي مادة صناعية, لذا فإن التمثال الحجري يظل عملا وحيدا لا يستنسخ, ومن هنا فإن عمله يتطلب درجة عالية من المهارة والصبر والحساسية, كي يتحول الإزميل في يد النحات إلى ما يشبه الفرشاة في يد الرسام, يلامس بها سطح الحجر لمسا حنونا ناعما, محاذرا أن يصيبه بجرح في غير موضعه, إنه إزميل عاشق, مرهف كالقوس فوق الوتر, فكيف يتأتى ذلك بين حديد الإزميل وكتلة الصخر? هذا ما حققه إزميل محمود موسى!

وقصة حياة هذا الفنان تشبه فنه في قسوتها وتحديها للصعاب, فقد ولد بالإسكندرية عام 1913 لأب كادح يعمل في نحت الزخارف الحجرية والجصية على جدران العمائر التي يبنيها مقاولون ومهندسون إيطاليون ويونانيون بالإسكندرية, ولأنه كان بحاجة إلى مساعدة ابنه له في عمله, لم يتح له أن يدخل المدرسة, واستطاع بالكاد أن يلتحق بـ (الكُتَّاب) وعمره 12 عاما, حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة, ولم يعش في الحقيقة حياة الطفولة يوما, فقد سُلبت منه طفولته, لأنه وجد نفسه مسئولا عن الإنفاق على أسرته, مدفوعا بإرادة أب قاسٍ للعمل الشاق المتواصل.

لكنه استطاع - وهو في السادسة عشرة - أن يلتحق سرا بمدرسة مسائية لتعليم الفن للهواة كان يرأسها الفنان السكندري الشهير محمود سعيد, ويقوم بالتدريس فيها بعض الفنانين الأجانب المقيمين بالإسكندرية, وراح يمارس فيها تجاربه الأولى في النحت, وفي أحد الأيام زار المدرسة النحات الخالد محمود مختار, فاسترعت نظرة موهبة محمود موسى, ولفت إليه أنظار أساتذته وأوصاهم برعايته, وكانت تلك نقطة تحول مصيرية في حياته, حيث أصبح له هدف يعيش من أجله: هو أن يكون نحاتا مثل مختار الذي صار مثله الأعلى, وازداد عشقه للفن بعد مشاهدته لأعمال النحت المصري القديم, بتوجيه من أستاذه اليوناني نيقولا بيرس (صديق مختار وزميل دراسته في باريس).

وسمعت السيدة هدى شعراوي (راعية الحركة الفنية في مصر آنذاك), بموهبته, فأسندت إليه تنفيذ بعض الأعمال النحتية, وحاولت إيفاده في بعثة لدراسة الفن في باريس, لكنها فشلت في مسعاها لعدم حصوله على أي مؤهل علمي, وضاعف ذلك من إصراره على تحدي الظروف بإبداعه الفني واطلاعه على كتب الفن وزيارة متاحفه والتعرف على اتجاهاته,وفي سبيل ذلك استطاع أن يتعلم اللغة الفرنسية في زمن قياسي, وفي عام 1940 أصبح له أول استوديو لفنان مصري في مقر أتيليه الإسكندرية للفنانين والكتاب بجواركبار الأساتذة الأجانب, بل جعل من هذا المكان مرسما مفتوحا لتعليم النحت للهواة من كل الجنسيات التي كانت تمتلئ بها الإسكندرية, وعندما أنشئت كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1957 اختير لتدريس النحت على الحجر بها حتى عام 1963.. وهكذا أصبح الفنان الفطري الذي حرم من البعثة لباريس لعدم حصوله على أي مؤهل دراسي.. زميلا لكبار أساتذة الفن!

اهتم محمود موسى في كل تماثيله بنحت معاني الخير والحب والسلام, والتعاطف مع كل الكائنات الحية, متخذا من مفردات البيئة مادة للتعبير عن هذه المعاني, مثل: أم ترعى أبناءها, أو أخت تحتضن أختها الصغرى, أو فتاة جالسة تحتضن ركبتيها ورأسها يستند إليهما, أو سمكة ممتلئة ترمز للخير, أو طائر منكمش في وداعة, أو عنزة ترضع صغارها... إن تماثيله في مجملها تعبير عن الحنان والرحمة, وعن التماسك الأسري واحتضان القوي للضعيف بين كل المخلوقات, وأسلوبه يتسم بالبساطة التي تقوم على اختزال شديد للواقع المرئي, حتى لا تبقى منه غير علاقات نغمية غاية في الرهافة والحساسية, من خلال خطوط انسيابية ذات منحنيات بالغة الرقة.

وتقديرا لإبداعه المتميز منحته الدولة منحة تفرغ للفن من 1963 حتى 1975, وكرمته بعد ذلك في عدة مناسبات حتى قبل وفاته بعام واحد.