حكاية من اليابان

حكاية من اليابان

ترجمة: خليل كلفت
رسوم: محسن أبو العزم

الصياد ذو الشباب الدائم

كان أوراشيما ميزومو صيادا شابا عاش في المدينة الصغيرة سوجيكانا في إقليم يوركا. وربما كان هذا لا يوضح لك الكثير, ولكن لا أهمية لهذا مطلقا, لأن قصته يمكن أن تحدث في كل مكان يعيش فيه بشر, بالطبع بشرط أن توجد أيضا سلاحف.

ولأن صيادنا كان يتنزه على شاطئ بحر, فقد رأى أطفالا يلعبون بسلحفاة صغيرة, وكان هؤلاء الأولاد المشاغبون قد أخرجوها من الماء, وقلبوها على ظهرها, وبقطعة مدببة من الخشب راحوا يُوسعونها وخزًا ليجعلوها تحرك أرجلها ورأسها. وكان الحيوان المسكين, عاجزا عن الفرار, وعانى كثيرا. سارع أوراشيما ميزومو إلى توبيخ الأطفال وأعاد السلحفاة إلى الماء. وفي بيئتها, استعادت السلحفاة البحرية في الحال كل قوتها واختفت.

بعد هذا بأشهر عدة, فوجئ أوراشيما, الذي كان يصطاد بعيدا عن الميناء, بهبة ريح عنيفة مزقت شراعه وحطمت قاربه, وأوشك الصبي المسكين على الغرق, عندما ظهرت سلحفاة ضخمة ودعته إلى أن يأخذ مكانه على ذراعها.

قالت: (أنت أنقذت ابنتي التي عذّبها الأطفال. وهذه مناسبة غير متوقعة لكي أثبت لك عرفاني بالجميل).

قال الصياد: (كم هو جميل منك أن تقومي بإعادتي إلى الشاطئ. كنت أصبحت حقا في غاية الإنهاك).

لو نزلت السلحفاة عند رغبة أوراشيما, ما استحقت هذه القصة حتى أن نحكيها, غير أن السلاحف تملك أحيانا خيالا أوسع كثيرا من خيال البشر, وقد اقترحت السلحفاة على الغريق أن تجعله يكتشف فردوس المحيط.

قالت: (مادام لم يعد لديك لا مركب ولا شبكة, تعال إذن لترى مالم يره بشر في يوم من الأيام, أؤكد لك أنه لن يكون عليك أن تأسف على الرحلة).

ودون أن تنتظر إجابته, تندفع نحو حفرة من أضخم حُفر المحيط, ولأنها كانت تسبح بسرعة, فإنها لم تكن تحتاج مطلقا إلى أكثر من ساعة واحدة لتصل إلى قصر رائع من المرجان. انفتحت بوابة كبيرة مرصعة بالكامل باللآلئ الكريمة, وصدحت موسيقى مثيرة للغاية رددت صداها تيجان الأعمدة التي أضاءتها أسماك ضخمة منتفخة الأوداج ذات جلد شفاف كانت تحمل في بطونها شموعا مضاءة.

نظر أوراشيما حوله, واكتشف أوركسترا من السلاحف كانت تنفخ في أبواق من الأصداف البحرية ذات أشكال عدة, وكانت سلاحف أخرى تدق بأرجلها على دروع فارغة, في حين كانت سلاحف غيرها تنقر على طحالب دقيقة تمتد بين أسنان سمكة قرش ظلت ساكنة, فاتحة شدقها على اتساعه, وكان هناك عدد كبير جدا من العازفين المهرة الذين كان يحتاج إليهم بشدة الأخطبوط قائد الأوركسترا بأذرعه الثماني لكي يقود عالمه.

كان الصياد لم يُفق بعد من ذهوله, عندما أحسّ بيد توضع على كتفه في حين غمغم في أذنه صوت امرأة:

(لم أتخذ مظهر سلحفاة إلا لكي أسبح لنجدتك, ولكنك ترى, فأنا ملكة القصر. ومنذ قرون ظللتُ أتمنى أن يرغب رجل طيب حقا في الزواج مني, وإنك أنت الرجل الذي سارع إلى نجدة واحدة من صديقاتي السلاحف).

كانت الملكة الشابة جميلة جدا, وكان صوتها عذبا جدا, وكانت نظرتها صافية جدا, وكان شعرها أشقر جدا, إلى حد أن الصياد لم يملك لحظة تردد.

احتضن الملكة, وفي الحال, بدأت الأوركسترا في عزف مارش الزفاف. ولم يشهد أيّ مراسل تلفزيون الحفلة لأن التلفزيون لم يكن موجودا بعد, ولكن يمكن إقناعك بأن هذا كان شيئا مخلتفا عن حفلات الزفاف المترفة التي تعرض علينا اليوم.

يمكنك أن تتخيل بسهولة كم كان سعيدا هذا الصياد الشجاع الذي لم يعش من قبل إلا في كوخ متواضع. وقد وجد نفسه قريبا جدا من قرينته إلى حد أنه لم ير السنين تجري. وينبغي القول إن تغير الفصول لا يترك علامات على أعماق قاع البحر, ولا يسمح شيء هناك بقياس الوقت.

وذات يوم سأل أوراشيما زوجته: (كم من الوقت مضى على وجودي هنا?)

قالت: (مرت ثلاثة أعوام, هل أنت قلق إذن?).

(أبدا, وحتى إذا قلت لي إنني هنا منذ ثلاثة أشهر, فإنني سأصدِّقك تماما أيضا. ولكن لابد أن أمي العجوز صارت قلقة. وأنا متشوق جدا للذهاب لاحتضانها).

قالت له الملكة: (اذهب, لكن خذ معك هذه العلبة. وعليك على وجه الخصوص ألا تفتحها, لأنك إن فتحتها, سأكون مفقودة بالنسبة لك).

استردت الملكة درعها الخاص بالسلاحف, ومضت لتنقل الصياد إلى مسافة فراسخ من قريته. وحالما اختفت, نظر أوراشيما حوله, واعتقد في البداية أن زوجته قادته إلى بلد مجهول; لأن أشياء كثيرة كانت قد تغيرت. وفيما كان يسير في اتجاه التجمع السكني الذي كان أشبه بمدينة منه بالقرية الصغيرة التي وُلد فيها, تعرّف الصياد مع هذا على منازل وصخور ومبان عامة كانت بالفعل هي تلك الموجودة في بلده القديم.

قال لنفسه: (ومع هذا, فعلت بها الأعوام الثلاثة كل هذا!).

ما أدهشه أكثر هو أنه لم يتعرف على أيّ شخص في القرية, التي كان يعرف كل مكان فيها, كل الناس. وأخيرا, عندما وصل أمام بيته, يحاول أن يفتح بابه, ولكن مفتاحه لا يدخل في القفل. ويقول لنفسه إنه لاشك في أن ثلاثة أعوام في قاع البحر قد تسببت في صدأ المفتاح, ويطرق الباب وينادي:

(ماما! افتحي! إنه أنا! أنا أوراشيما, ابنك!).

ينفتح الباب بالفعل, ولكن امرأة مجهولة هي التي تتقدم إلى العتبة وتصرخ:

(هل ترون هذا الذي يبحث عن أمه عندي, هل تريد أن أطلب الشرطة?).

ويقول أوراشيما: (عفوا, لكن أمي كانت تعيش هنا, منذ ثلاث سنوات, عندما تركتها).

(ثلاث سنوات? لكنني أملك هذا البيت منذ أكثر من ثلاثين سنة. دعْني وشأني!).

وتصفق الباب في وجه الصياد التعيس الذي لم يعد يعرف مطلقا فيم ينبغي أن يفكر. ويبقى مذهولا لحظة تمتد طويلا, ثم يبدأ في سؤال المارة الذين يدهشهم جميعا زيّه العتيق ويعتقدون أنه أبله. ويصل في الحقيقة إلى حد اليأس, عندما يلتقي أخيرا بامرأة عجوز تقول له:

(منزل الصياد أوراشيما ميزومو, لكن هاهو المنزل. إنه هناك, في نهاية شارع الميناء. أنا أعرف هذا المنزل جيدا, عشت دائما بجواره, يمكنني حتى أن أقول لك إنني كنت أعرفه, ذلك الصبي. عجبا! في الزمن الذي مات فيه غريقا في البحر, كنتُ في الثامنة, أما هو, فلابد أنه كان في العشرين, ولكن, انْحَن قليلا حتى أنظر إلى وجهك عن قرب! شيء غريب, هذا عجيب, لكنك تشبهه وكأنك أخوه, فهل أنت من أسرته?).

(لكن, أنا...أخيرا...إنه...).

(ما بالك, يا بني? أراك متأثرا جدا. مع هذا يمكن أن تكون لم تعرفه! هيا بنا, تعالَ إلى منزلي, كأس صغيرة سوف تنعشك...تعالَ, اسمي كييوهيمي).

وبنصف وعي, دخل أوراشيما هذا المنزل مع المرأة العجوز. وعندما أحس بأنه أفضل قليلا قال:

(أنا أوراشيما ميزومو, وأنا أعرف أنني لم أغادر هذه القرية إلا منذ ثلاث سنوات).

انفجرت العجوز ضاحكة, ثم أخذت تحكي كل ما جرى منذ رحيل جارها. أمه ماتت حزنا عليه. وبيع منزلها, وتغيرت القرية, المواليد, الزيجات, الوفيات.

وكلما واصلت الحكي, أحس أوراشيما بقلق مفزع يثور بداخله. هل كان السر في العلبة التي عهدت بها زوجته إليه? وناسيًا التوصيات التي قدمتها إليه, فتح العلبة التي تصاعدت منها في الحال سحابة بنفسجية غطت وجهه. وعندما تلاشت السحابة وتوقف الصياد عن السعال, أراد أن ينهض, غير أن ألمًا حادًا عصر كليتيْه, ومنحنيا إلى الأمام, ومستندا إلى الجدار, نجح في السير إلى حيث المرآة التي أعادت إليه صورة شيخ أصلع تعلو وجهه التجاعيد.

كييوهيمي, التي كادت الدهشة تفارقها, رفعت المصباح نحوه وعلقت:

(حقا, إن نظري يضعف أكثر فأكثر, في الخارج, كنت أراك شابا, ولكن هذا صحيح حقا. أنت أوراشيما حقا... وأعتقد حتى أنك تبدو أكبر من عمرك).

لم يقل الشيخ شيئا, وببطء, وعلى ساقيه اللتين كانت ترتعشان, خرج وسلك اتجاه الشاطئ, وعلى الشط, قام بدوره ليتفادى أطفالاً كانوا يتسلون بتعذيب سلحفاة بحرية مسكينة تعذيبًا شديدًا. وظل جامدًا بلا حراك حتى الغروب, محدّقا إلى البحر حيث كانت الغيوم تمزج ظلالها الرمادية بالظل الرمادي للأمواج. ثم, عندما خفت آخر أضواء النهار, جرجر أوراشيما قدميه بمشقة إلى كهف محفور في الشاطئ الصخري, وهناك, تمدد على الرمال, وانتظر بهدوء ساعة المدّ, وأخذ يتلو صلاة المحتضرين.

 


 

برنار كلافيل