قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

رسوم: ممدوح طلعت

ثابت بن قرة.. الحياة.. أقصر عمرًا من الكتب

نعم.. معرفة واحدة لا تكفي.

ونظر الصبي الصغير (ثابت) إلى الوليمة الضخمة التي أمامه, وهو يشاهد المدعوين من أهل العلم, ينهالون على الأطعمة الشهية المتعددة الأشكال, ولاحظ أن كل مدعو لا يكتفي فقط بنوع واحد من الغذاء.

كان (ثابت) هو أصغر المدعوين جميعًا, وقد فوجئ أن الخليفة أرسل إليه مندوبًا, وقدم له دعوته إلى وليمة العلماء.. قائلاً:

- مولانا الخليفة يعرف جيدًا قدر العلماء.. وقد أثنى عليك في حضرة جلالته عالمنا الكبير (محمد بن موسى الخوارزمي).

وفي الحفل, كان أول شيء فعله الصبي (ثابت بن قرة) المولود عام 835 ميلاديًا في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي أن راح يبحث عن أستاذه (الخوارزمي), عالم الرياضيات الشهير, وقبّل يديه, وقال له:

- شكرًا يا سيدي الأستاذ.. لك إجلال في عنقي.

وابتسم (الخوارزمي) وشد تلميذه من يده واتجه به إلى حيث يوجد الخليفة (المعتضد) وطلب السماح بالحديث معه.. قال الخليفة, وهو يشير إلى الصبي:

- إنه هو تلميذك الذي حدثتني عنه.

ردد (الخوارزمي):

- سوف تجده - إن شاء الله - ذكيًا, وفصيحا.

نظر الخليفة إلى الصبي, وسأله:

- ماذا تعلمت في حياتك يا صغيري?

ردد الصغير بلباقة لم يألفها أحد من الحاضرين.

- مثل المأدبة التي لا تنتهي.. فإن معرفة واحدة لا تكفي..

وضحك جميع الحاضرين, وهنا قال الخليفة:

- لتتناول ما تشاء من الأطعمة فهي أمامك.. ولتنهل ما ترغب من العلوم.. فافعل ما تريد.. وقل لكل من تقابل إن الخليفة يحترم العلماء.. والموهوبين.

وكان ذلك بمنزلة الإذن للصغير أن ينهل من بحور العلم, ما تتسع له موهبته, ورغبته في ذلك, فراح يجيد العديد من اللغات القديمة, والحديثة, منها اليونانية والسريانية, والعبرية.

في البداية, راح يستوعب علوم الأمم الأخرى من خلال إتقانه لهذه اللغات, ثم قرر أن يترجم أمهات الكتب المشهورة في هذه اللغات, إلى اللغة العربية.

كان (ثابت بن قرة) رجلا محظوظًا لأنه عاش في عصر الخليفة (المعتضد), فكلما ترجم كتابًا, أرسل له الخليفة أكياس الذهب التي تكفيه كي يبحث عن كتاب جديد يترجمه.

وعن طريق الترجمة, استوعب الشاب الكثير من علوم عصره.

صار نابغًا في الطب, وتمكن من حل مسائل معقدة في علم الهندسة, وتمكن من رصد حركة بعض النجوم في السماء, وراح يؤلف كتابًا في الفلسفة.. وصار كل همه أن يبني مرصدًا في المدينة.

ووصل الخبر إلى الخليفة, فقال:

- توكل على الله, مدينتنا في أشد الحاجة إلى مرصد, تتعرف به على ما يدور في أعلى.. وادخر (ثابت بن قرة) كل وقته لبناء المرصد, في أعلى مكان بالمدينة, وعندما انتهى منه استجلب عددًا من العلماء والشباب, وقال لهم:

- وهب اللّه الشباب قوة إبصار أشد مما لدينا نحن الأكبر سنًا, فانظروا إلى السماء, ودققوا واكتبوا ملاحظاتكم.

واستطاع (ثابت) أن يقيس طول السنة, حسب حركة النجوم في السماء, كما رصد مسار الشمس طوال العام, وتمكن عن عمل تقويم دقيق لهذا المسار ولم يكن ذلك أمرًا صعبًا على رجل يتقن علاقة الجبر بالهندسة, ويعرف كيف يحل مسائل المربعات السحرية.

وآمن (ثابت بن قرة) أن العلوم مثل متاهات لعب الأطفال, تؤدي كل متاهة منها إلى الأخرى, فعن طريق الهندسة, والجبر, يمكن تحديد المسافات بين النجوم في السماء البعيدة.

وعن طريق علم الكيمياء.. يمكن تصنيع الأدوية للأمراض المختلفة.

لذا تنوعت مؤلفات (ثابت بن قرة) منها كتاب في (أوجاع الكلى والمثانة), وكتاب آخر عن (أنواع الأدوية وتقسيماتها), وكتاب عن (علم الفلك), وكتاب عن (سبب كسوف الشمس).

وعندما مثل العالم يومًا بين يدي الخليفة المعتضد, قال له:

- أيها العالم.. لقد صار شعرك أبيض اللون.

رد العالم:

- نسيت الزمن يا مولاي.. ولم تبق لي سوى مؤلفاتي.

وراح يعدد مؤلفاته أمام الخليفة الذي انفجر ضاحكًا, وهو يقول:

- ما شاء الله.. عدد هذه الكتب يفوق سنوات عمرك بكثير.

وبعد ثلاثة أعوام, وفي أوائل القرن العاشر الميلادي, رحل (ثابت بن قرة) عن عمر يناهز الخامسة والستين, ودفن في بغداد, على مسافة قريبة من المرصد الذي عاش فيه الوقت الأكبر من حياته.

 


 

محمود قاسم