بيكاسو يدعوكم إلى منزله

بيكاسو يدعوكم إلى منزله

صورها: حسين لاري

مرحبا بكم في بيتي الصغير, تفضلوا بالدخول, لقد تحول إلى متحف, ولكن الدخول مجاني, فقط عليكم أن تحافظوا على الهدوء ولا تلمسوا الأشياء المعروضة, من المؤسف أنني لن أكون معكم, ولكن روحي سوف تراكم وأنتم تتجولون بين الأشياء التي أحبها, أنتم تعرفون اسمي طبعا, بابلو بيكاسو, العالم كله يعرفني من خلال رسومي ولوحاتي وتماثيلي, لا أعتقد أن هناك بلدا يخلو من أعمالي الفنية, فقد أنتجت عشرين ألف قطعة من الفن, ولم أكن أتوقف عن العمل ليلا ولا نهارا, وكان الحزن يدفعني للعمل كما تفعل بي السعادة.

حمامة السلام

منزلي ـ كما ترون ـ موجود على ناصية ميدان بلازا ديلا مرسيد في مدينة ملقا في جنوب إسبانيا, إنها إحدى مدن الأندلس القديم, وقد ولدت في ذلك المنزل عام 1881 وعشت أيام طفولتي, وقسما كبيرا من شبابي بين جدرانه, كنت أتجول كثيرا في هذا الميدان لأتناول الفطائر المحلاة بالشوكلاتة التي يشتهر بها أهل ملقا, ثم أستريح في الحديقة الصغيرة الموجودة في وسط الميدان لأرسم مشاهد الطبيعة, وأراقب الحمام الذي كان يهبط على كتفي. من هذه الحديقة استوحيت رمز السلام المعلق على جدران الأمم المتحدة, والذي يصور حمامة تمسك في منقارها غصن زيتون, وملقا بلدي تنتشر حولها مزارع الزيتون.

تعالوا ندخل من هذا الممر, حيث توجد الغرفة الصغيرة في الدور الأول, هنا ولدت, لن تشاهدوا الأثاث القديم طبعا, ولكن ستشاهدون صورا كثيرة من طفولتي معلقة على الجدران, وتقول أمي إنني كنت طفلا عالي الصوت لا أكف عن الحركة, كنت أريد بيتا أوسع من هذه الجدران, وعالما أكبر من هذا الميدان, ولكن هذا البيت علمني أن أحب الرسم ورائحة الألوان وشكل الفراشة منذ طفولتي. أبي كان مدرسا للرسم وكان يسعى لأن يصبح مشهورا, ولكن عندما بلغت العاشرة من عمري فوجئت به يتوقف عن الرسم ويحدق في رسومي. لم أكن أفعل سوى أنني كنت أقلد الرسامين القدامى من عصر النهضة, وأعتقد أنه كان تقليدا فاشلا, ولكنني فوجئت بأبي وهو يكسر فراشاته التي كان يرسم بها وهو يقول لي:

ـ لن أرسم بعد الآن, أنت الموهوب في هذه الأسرة والجدير بالشهرة.

أنتم تعرفون طبعا كيف يحب الأب أولاده, ولكن الحق أقول لكم, لقد أثرت في هذه الكلمات, ومن لحظتها وأنا أحلم بأن أجد لوحاتي معلقة على جدران كل متحف في العالم, أترون هذا السلم الصغير الملتوي الذي يصعد للدور الثاني لمنزلي, في الأعلى توجد غرفة نومي أنا وأخي, كنت أجلس على هذا السلم واحلم باليوم الذي سأنطلق فيه إلى العالم.

من الأزرق إلى الوردي

والآن أصعدوا معي إلى أعلى, إلى الحجرة الصغيرة التي يكسو جدرانها ورق أحمر اللون, هنا كنت أجلس الساعات الطويلة لأذاكر دروسي وأضع التخطيطات الأولى لرسومي, ومن هنا أيضا انطلقت لبقية أنحاء العالم. كانت ملقا يا أصدقائي مدينة فقيرة في الجنوب, مليئة بالبؤساء والعاطلين عن العمل, وقد اضطررت لتركها والرحيل إلى باريس عام 1900 أي عندما كان عمري تسعة عشر عاما, كنت ممتلئا بصور الأطفال البؤساء, والنسوة العجائز, والفقراء, فأخذت أرسمهم جميعا بألوان يغلب عليها الأزرق, وأطلق نقاد الفن على هذه اللوحات اسم (المرحلة الزرقاء), وعندما استقر بي الحال في باريس بدأت أشاهد البهلوانات والمهرجين والأطفال الصغار وأرى مظاهر الطبيعة وهي تتفتح من حولي أخذت أرسم لوحات أكثر بهجة يغلب عليها اللون الوردي, وكالعادة أطلقوا عليها (المرحلة الوردية), ثم أخذت لوحاتي تتطور بعد ذلك خاصة بعد أن تأثرت بالفنون القادمة من إفريقيا وأنشأت تيارا فنيا خاصا بي هو التكعيبية.

والآن.. تأملوا بشكل خاص تلك القطع الخزفية الموجودة في غرفات المنزل, الخزف هو أقدم الفنون التي عرفها الإنسان, وهو يشكلها وفق احتياجاته, أطباق وملاعق وآنية وجرار, لقد عشقت الخزف في شوارع ملقا, بين الورش القديمة, وأنا أشاهد العمال المهرة وهم يشكلون الطين ليصنعوا منه أشكالا فنية جميلة, لم أنس ذلك حتى بعد أن كبرت.

في عام 1946 ذهبت في رحلة إلى بلدة فرنسية صغيرة اسمها (فالوري) ومعناها وادي الذهب, وزرت ورشة صغيرة للخزف يملكها صديقان لي هما جورج وزوجته سوزان, وهناك توقفت مدهوشا أمام جمال الآنية الصغيرة, وتذكرت طفولتي, قررت العمل معهم في الورشة, وأخذت أصمم أشكالا لم يرها أحد, ولم يتصور أحد أنها تصلح للخزف. صنعت أكثر من ألفي قطعة معهما, اخترت منها 150 فقط حتى أقوم بعرضها في باريس, وقد بيعت جميعا, بل إن السياح الأجانب عرفوا اسم القرية التي أعمل بها فبدأوا في التدفق عليها, فتحولت (فالوري) فجأة إلى مكان سياحي مزدحم بالزوار, وانتعشت الأعمال فيها, وصدرت عنها الكتيبات والطوابع والبطاقات التذكارية, وأحبني أهل هذه البلدة كثيرا, لدرجة أنهم صنعوا صنفا من الخبز أطلقوا عليه اسم رغيف بيكاسو, وهو يشبه أصابع يدي المفلطحة وهي تشكل الفخار, وصنعت أنا لهم تمثالا جميلا عن فتاه صغيرة وهي تضم حملا صغيرا إلى صدرها, وقد وضعوا التمثال في كنيستهم الصغيرة, ولما حاول واحد من الأمريكيين شراء هذا التمثال بمبلغ 10 ملايين فرنك رفض أهل القرية.

القصص كثيرة يأصدقائي, ولم تنته حتى بعد أن رحلت عنكم في عام 1973 لدرجة أنني أشعر كأنني باق بينكم. ولعل أشهر النكات التي قيلت عني هي أنني عدت ذات مساء ومعي صديق لي, ففوجئت باللصوص وقد سطوا على مرسمي, وعندما سألني الصديق عما سرق مني, قلت له غاضبا: أشياء ليست مهمة, ملاءات السرير فقط, وعاد الصديق يسألني: لماذا الغضب إذن?, انفجرت من الغيظ هاتفا: هؤلاء اللصوص الأغبياء, يسرقون ملاءة السرير, ويتركون لوحاتي الفنية العظيمة.

هيا اضحكوا, دعوني أشعر إنني باق معكم, باق من خلال اللوحات والتماثيل وحتى قطع الخزف, الفنان الحقيقي لا يموت يا أصدقائي لأن أعماله الفنية تبقى شاهدا عليه, وأنا سعيد لأن بيتي مازال مفتوحا ويستقبل ضيوفا عربا مثلكم.

 


 

محمد المنسي قنديل

 




هذا التمثال نحته في مرحلة مبكرة من شبابي وقد احتفظت به في حجرتي الخاصة





لوحة معلقة على مدخل البيت, تقول إن الملك خوان كارلوس والملكة صوفيا قد قاما بافتتاح هذا المنزل في 22 يونيو عام 1998





هذه صورة قديمة لي, أحب هذه القبعة الإسبانية القديمة, كنت أرتديها دوما, حتى بعد أن هاجرت إلى باريس...انظروا كم كنت جميلا وأنا صغير, كان شعري غزيرا, لا أدري لماذا أصبت بالصلع عندما كبرت





طبق من الخزف, عليه صورة الفارس دون كيشوت وهو يهاجم أحد الوحوش





هذه هي الغرفة التي كنت أذاكر فيها دروسي وأرسم فيها, إنها مرتبة الآن بعد أن تخلصت من الفوضى التي كنت أتسبب فيها





وجه على طبق, قمت بتصميمه أيضا, وهو يشبه وجه أمي إلى حد كبير