الصياد الذي اختفى.. قصة شعبية من الشرق الأقصى

الصياد الذي اختفى.. قصة شعبية من الشرق الأقصى

رسوم: عبدالعال

يحكى أنه كان يعيش في غابر الأزمان صياد فقير الحال, لكنه كان طيب القلب, يدعى (أوراشيما تارو).

وذات يوم, بينما كان يسير على الشاطئ, حاملا شبكة صيده على كتفيه, إذ به يلمح بعض الصبية يقذفون بالعصي والأحجار صوب شيء كان يزحف أمامهم على الرمل, فتساءل: ترى ماذا يكون هذا الشيء?

وعندما تقدم نحو هذا الشيء الزاحف, إذ به يرى سلحفاة بحرية عملاقة كانت قد غامرت بالخروج من الماء إلى الساحل الرملي, ثم راحت تكد سعيا للعودة للماء.

- كفى! صاح أوراشيما تارو بالصبية. ألا تعلمون أن كل المخلوقات الحية هم إخوتكم وأخواتكم في هذا الكون?!, وأن من واجبكم أن تعاملوهم بحنان وشفقة?

ثم إنه يقال إن السلاحف البحرية رسل وسفراء الملك التنين الذي يحكم أعماق البحار, كما أن السلحفاة تعيش عشرة آلاف عام, فلو أنكم قتلتم كائنا مقدرا له أن يعمر لعشرة آلاف عام فسوف تحاسبون على ضياع سنوات عمره التي افقدتموها له. إن ما تفعلونه خطأ جسيم. انتبهوا, أضاف وهو يفتش في صرة صغيرة معه ليخرج منها بعض القطع النقدية, خذوا مني هذه النقود ودعوا السلحفاة في حالها.

وأخذ الصبية النقود وتركوا السحلفاة لحال سبيلها لتواصل سيرها نحو البحر, وقبل أن تغوص مباشرة بالمياه الخضراء, التفتت ونظرت باتجاه أوراشيما تارو متمعنة, كأنما كانت تسجل ملامحه في ذاكرتها. ثم اختفت تحت الأمواج, تاركة وراءها خطا رفيعا من الفقاقيع الفضية.

واصل أوراشيما تارو طريقه إلى أن وصل لقاربه, فوضع شبكته في قاعه ودفع به في الماء, ثم قفز داخله, وشرع في التجديف. وظل يجدف مدة طويلة إلى أن بلغ عرض البحر.

كانت الشمس ترسل شعاعها, ناشرة على سطح البحر قشورا من الضوء, عندما راح الماء يقطر من المجاديف التي سكنت في مكانها على حافتي القارب, بينما استسلم أوراشيما تارو لهدهدة الموج, إذ غلبه النعاس دون أن يدري, فوضع رأسه على حافة القارب وراح في النوم.

ورأى أوراشيما تارو في نومه حلما, شاهد فيه امرأة رائعة الجمال تخرج من أعماق البحر وتسير على الموج دون أن تغوص فيه, ثم تتجه مباشرة صوب قاربه, وقد انسدلت ضفيرتا شعرها الطويلتان السوداوان على ظهرها وهي ترتدي ثوبا رائعا ملونا بمزيج من الأرق والأرجواني, وتضع حول رقبتها ومعصميها أساور من لؤلؤ, ومرجان, وزمرد.

واقتربت المرأة في الحلم أكثر, ثم وضعت قدميها في القارب, وانحنت وهزت كتفه وهو نائم برفق.

استيقظ أوراشيما تارو فوجد أمامه نفس المرأة التي رآها في حلمه!

- من أنت? تساءل, وماذا تفعلين هنا?

أجابته المرأة بصوت له رجع يشبه هدير البحر:

- يا أوراشيما تارو, أنا الأميرة بنت الملك التنين حاكم أعماق البحار. وقد عرف ما أسديته من جميل بما فعلته مع رسوله السلحفاة, فقرر أن يهبني لك لأصبح زوجتك, وأن نعيش معا, إذا شئت, في جزيرة الصيف الأبدي.

ووافق أوراشيما تارو بسعادة شديدة. فجلست المرأة إلى جانبه, وشرعا يجدفان طويلا, كل منهما بيد على مجداف. إلى أن توارت عن أنظارهما وراء الأفق جزر اليابان, ولاحت أمامهما جزيرة الصيف الأبدي. وعندما عبرا حاجز أمواجها إلى الشاطئ, قفز أوراشيما تارو من القارب وسحبه على الرمل. ثم ساعد الأميرة على النزول إلى البر. وعندما التفت إلى الشاطئ, لمح بعضا من مخلوقات البحر المدهشة, وقد ارتدت ثيابا فاخرة, وأحاطت برءوسها التيجان, وهي تهتف به:

- مرحبا بك في قصرك, أيها الشجاع أوراشيما تارو!

وعندئذ بدأ حفل زواج أوراشيما تارو وأميرة أعماق البحار.

***

كان كل يوم يمر عليهما يحفل بمفاجأة سعيدة للصياد. وكانت هذه المفاجأة في شكل هدية عبارة عن لؤلؤة عظيمة أكبر من كل اللآلئ التي شهدها بحياته, تشع ضوءا كافيا لإنارة بهو القصر, وأحيانا كانت عبارة عن ثعابين بحر عملاقة تأتي لتلتف حول أعمدة السلم وترسل بريقا يشبه بريق نجوم السماء. وأحيانا كانت عبارة عن أخطبوط يتبع الصياد في سيره كأنه كلب أو قطة أليفة. ولمدة ثلاثة أعوام, عاش أوراشيما في سعادة تبلغ الخيال.

وذات يوم صحا من النوم معتقدا أنه رأى حلما أزعجه, فأخذ يحدث نفسه:

- أمي وأبي وعائلتي وأصدقائي, لا بد أنهم يعتقدون الآن أنني مت. لا بد أن أعود لرؤيتهم, ولو لبعض الوقت. لقد ركبت البحر منذ ثلاثة أعوام ولم أعد إليهم منذ ذلك الحين. كيف لي أن أقابل شيئا كهذا? إنني أفتقد عائلتي. ولا بد لي من العودة لأطمئنهم على أنني بخير.

وعندما رأى زوجته قال لها:

- لقد كنت أفكر في أمي, وأبي, وعائلتي وأصدقائي! فقد تركتهم وركبت البحر منذ ثلاثة أعوام ولم أعد إليهم. ولا بد أنهم اعتقدوا أنني مت. ولا بد أن أذهب لزيارتهم.

وأجابته زوجته بصوتها الذي يذكر بهمهمات البحر:

- يا أوراشيما تارو, لا تذهب, لأنك لو ذهبت فلن تعود ثانية.

- لا, فسوف أعود, أكد أوراشيما. فلن أتركك أبدا. إنني فقط أريد أن أرى عائلتي وأطمئنها على مصيري, ثم أودعها وأعود.

لكن الزوجة الشابة كررت عليه القول:

- يا أوراشيما تارو, أنا أعرف أنك لو ذهبت فلن أراك ثانية.

فأجابها مؤكدا:

- لا تخافي, سأعود سريعا.

وعندما تيقنت من أنه سيرحل لا محالة, سواء أرادت هي أم لم ترد, راحت تبحث في أشيائها, وعادت وأعطت له صندوقا صغيرا مطليا باللون الأسود, مغلقا بقفل فضي, قالت له بصوت ناعم يشبه صوت حفيف ماء البحر في الصيف:

- خذ هذا الصندوق ولا تضيعه أبدا فهو سيساعدك على العودة إليّ ثانية, ولكن - وهنا تضخم صوتها وصار يشبه صوت موجة غاضبة - إياك وأن تفتحه في أي حال من الأحوال, أهذا واضح?

أجاب أوراشيما تارو:

- سأحافظ عليه دوما معي, ولن أفتحه أبدا.

وانطلق متجها إلى قاربه, ووضع الصندوق بداخله ودفع به إلى الماء. وراح يجدف لوقت طويل, حتى غابت عن ناظره جزيرة الصيف الأبدي, وظهرت أمامه جزر اليابان, وطنه.

وعبر حاجز الأمواج, ثم قفز إلى الأرض, وجر قاربه على الرمل, حتى يسحبه البحر. ثم أخذ الصندوق وصعد إلى الساحل. ولكنه وجد نفسه فجأة أمام مكان غير الذي كان يعرفه. فعندما رحل منذ ثلاث سنوات فقط عن وطنه, كانت الجبال التي تظهر في الأفق مغطاة بالأشجار. لكنها الآن لم تعد تظهر إلا على هيئة صخور جرداء, ومنذ ثلاثة أعوام كانت أشجار الأيك كبيرة ومستقيمة, لكنها صارت الآن ملتوية ومنحنية. وصار مظهر البيوت غريبا, ولم تكن على هذه الحال من قبل أبدا. وحاملا صندوقه بيده, سار متجها وتوغل بالقرية, لكنه لاحظ أن وجوه السكان صارت مضطربة بدورها. لقد وجد نفسه في وطنه, وقريته, ومع ذلك لم يتعرف على أي شخص قابله.

(ما معنى هذا? تساءل: لماذا تغير كل شيء? إنني لست مع ذلك غريبا عن هنا, ولكنه عندما وصل إلى موقع بيته, لم يجد البيت بل وجد مكانه ساحة خربة.

(لابد أنني ضحية خطأ صوّر لي أنني في وطني وما أراه شيء آخر, قال أوراشيما تارو لنفسه.

واقترب من رجل عجوز يعرج متكئا على عصاه.

- أيها الشيخ, استوقفه أوراشيما تارو, إنني أطلب مساعدتك.

- ماذا تريد? سأله العجوز.

- هل لك أن تدلني على بيت رجل يدعى أوراشيما تارو, لقد قضى شبابه هنا, مع أبيه وأمه.

راح الرجل العجوز يتفكر وهو يمسد لحيته:

- أوراشيما تارو? أوراشيما تارو? إنني لم أسمع بهذا الاسم أبدا.

ثم واصل طريقه, صاح أوراشيما تارو:

- أيها الشيخ, انتظر, إنني على يقين من أنه كان يسكن هنا. أرجوك أيها الشيخ, فكر قليلا في هذا الاسم! أوراشيما تارو.

- أوراشيما تارو? غمغم الرجل العجوز مرة ثانية. أوراشيما تارو? نعم نعم, قال: فجأة كما لو عادت له ذاكرته. لقد قص علي جدي حكاية عن شخص يدعى أوراشيما تارو, وكان صيادا شابا ركب البحر ذات صيف ولم يعد أبدا, وقد حدث ذلك منذ ثلاثمائة عام, عموما اذهب إلى المقابر. فهناك سوف تجد قبور كل أقاربه, والآن دعني أمضي لحال سبيلي.

وأسرع الرجل العجوز بالابتعاد.

(ترى ما هذا الكابوس?) فكر أوراشيما تارو. ثم اتجه صوب المقابر, وهو يحمل تحت إبطه صندوقه, وهناك, في القسم الأكثر قدما من المقابر, تحت شجرة عتيقة, ظهرت أمامه ثلاثة شواهد قائمة, مغطاة بطبقة كثيفة من الزغب المترب.

وتوجه أوراشيما إلى الشاهد الأول, فمسح ما علق عليه من طبقة الزغب, فوجد محفورا على الحجر اسم والدته, وعلى الحجر الثاني لمح اسم أبيه, ثم اكتشف اسمه محفورا على الحجر الثالث, وتجمد من الذهول, لكنه كان يتمسك باستمرار بصندوقه, فاستدار عائدا, كمن يترنح في الضباب, صوب الساحل.

عند وصوله إلى الشاطئ, أصابه الشلل التام, بينما راحت الأمواج تغمر قدميه, ثم أخذ يصرخ فجأة بصوت عال:

- إن سر هذا الكابوس وهذه الأوهام في ذلك الصندوق, ولابد أن أفتحه لكي أفهم ما أصابني.

ونزع القفل الفضي الذي كان يغلق الصندوق فسقط على الرمل, ورفع الغطاء عنه, وهو يلتقط أنفاسه, فصعدت من الصندوق سحابة صغيرة بيضاء وحلقت عبر المحيط باتجاه جزيرة الصيف الأبدي.

وفجأة, شعر أوراشيما تارو بالشيخوخة, وضعف القوة, وتقلصت يداه المرتجفتان, وتجعد أسفل عينيه. وسقطت أسنانه, وتلوّن شعره بلون رمادي سرعان ما تحول إلى الأبيض, وسقطت دمعتان من عينيه فوق مياه البحر, وصار أوراشيماتارو عجوزا طاعنا في السن ثلاثمائة عام, وانهار فوق الرمل, وصار رمادا, ثم طار هذا الرماد بدوره محلقا فوق المحيط باتجاه جزيرة الصيف الأبدي.

فإذا أتيحت لك أيها القارئ فرصة السفر لليابان في يوم من الأيام, حاول أن تتوجه لزيارة هذه القرية. ففي معبدها الذي لايزال قائما, سوف تجدهم مازالوا يحتفظون بذكرى هذه القصة, ممثلة في الصندوق الأسود, وقفله الفضي الذي كان يغلقه, وقطعة صغيرة من حبل قارب أوراشيما تارو.

 


 

نجوى حسن