قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

جريجور مندل.. سر الزهور المتشابهة!!

رسوم: ممدوح طلعت

(يا إلهي.. لماذا تتشابه كل هذه الزهور في هذا الحقل الواسع)..?

وجد الصغير (جريجور) نفسه يتأمل المكان من حوله, فالسماء زرقاء, والجبال العالية تتناثر في هذه البقعة من النمسا, والزهور الصفراء تملأ الحقل.

وحين عاد (جريجور) وجه سؤاله إلى أبيه (مندل) الذي تعلثم قليلا ثم قال:

- هكذا خلقها الله.

احتار (جريجور) وهو يبحث عن إجابة لسؤاله, وبدأ يكتشف حقيقة بالغة الأهمية, أن العلم والإيمان لا ينفصلان عن بعضهما, وأن كلاً منهما طريق إلى الآخر.

حدث هذا في عام 1832, في تلك البقعة من الريف النمساوي, حيث تعيش أسرة الفلاح (مندل) حياة راضية, لكن الابن (جريجور) لم يكن يكف عن التساؤل, وأباه ليس سوى فلاح بسيط, لا يجيد شيئا سوى زراعة حقله الصغير, فإن الصغير (جريجور) قال لنفسه:

- لن أكون تلميذا في مدرسة واحدة.

وقرر أن تكون القراءة هي مدرسته, بالإضافة إلى ما يتلقاه من علوم في المدرسة, فأخذ يقرأ كتب الفلسفة. ثم قال:

- الفلسفة وحدها لا تكفي.

واتجه لدراسة علوم الدين, واكتشف أن عليه قضاء الكثير من السنوات كي يلم بهذا العلم الواسع, ووجد نفسه وقد صار شابًا, يرتدي زي الراهب, يومها عانقه أبوه, وقال:

- كم تمنيت, لو صار ابني الوحيد رجل دين!

رد الابن: أروع ما في الدين, أنه يحثنا أن نعرف الدنيا وعلومها.

وسار في الطريقين معا (العلم والإيمان), بعد أن اكتشف أن كلاً منهما يؤدي إلى الآخر, ووجد أن علم الرياضيات يفتح أمام عقله الفرصة للتفكير في الكثير من شئون الدنيا والدين, أتقن العلوم الأخرى, مثل علم الأحياء, وعلم الفيزياء.

وكم شعر بالسعادة وهو يلقن تلاميذه من الرهبان الجدد, كما ما هو جذاب في العلوم التي أتقنها, إلى أن خرج ذات يوم من مدرسة الرهبان إلى الحديقة, ووجد السؤال القديم, يجدد نفسه أمام عينيه:

- لماذا تتشابه كل هذه الزهور في الحقل الواسع?

كان الرهبان, كعادتهم يقومون بزراعة حديقة الدير من النباتات لاستهلاكهم اليومي, فيزرعون الفاكهة, والخضراوات, وفي ذلك اليوم كانت نباتات البازلاء قد ملأت أرض المزرعة.

تساءل: لماذا تتشابه كل هذه الزهور, إنها صفراء فقط, ليس من بينها زهور بنفسجية أو حمراء, إذن فلا بد أن هناك سببا.

وراح يراقب البازلاء, فبعد أسابيع, تكونت الثمار, وخرجت البذور وبدأ يهتم بنفسه بزراعة النباتات الجديدة من البازلاء, وأخذ يراقب صفات المزروعات الجيدة من النبات نفسه.

وكانت المفاجأة.

فالنبات الابن يحمل نفس صفات النبات الأب.

إذن, فلا بد أن هناك شيئا ما ينتقل من النبات الأب, إلى النبات الجديد أي أن هذا الأخير يرث صفاته من أبيه وأمه. وعكف (مندل) على دراسة الصفات التي يتم نقلها من الآباء إلى الأبناء.

وراح (مندل) يزاوج بين زهور البازلاء, عاما وراء آخر, سعيًا إلى التوصل إلى نتائج مجهولة, فحين قام بالتزاوج بين نباتات قصيرة القامة, ولدت النباتات الجديدة قصيرة القامة.

وكرر التجربة في الحقل المجاور مع النباتات طويلة القامة, فأنجبت نباتات مثلها, قوية, وطويلة لكنه عندما زاوج بين نباتات قصيرة, وأخرى طويلة اختلفت النتائج.

وراح يكمل أبحاثه فيما يشبه اللعب, حيث زاوج بين هذه النباتات وبعضها, وحصل على نتائج مدهشة, حين أدرك أن في الكائن الحي صفات يتم توارثها تبدو قوية, وسائدة, وصفات أخرى تبدو ضعيفة تقريبا.

اللون الأسود سائد, أما الأبيض, فضعيف.

وحين يتزاوج الأسود والأبيض, فإن نسبة الأبناء السود إلى الأبناء البيض تقريبا 3:1 وكرر (مندل) تجاربه.

وراح ينشر أبحاثه في المجلات العلمية, لكنه وجد نفسه محاطا بالكثير من التجاهل المتعمد.

ولم يتوقف (مندل) عن العمل, كان يؤمن بأن الإصرار هو منبع النجاح, وأن العمل الناجح سوف يصل إلى الناس.

ومات مندل عام 1884, وهو في الثانية والستين, دون أن يعترف أحد بما قدمه للعلم, إلا أنه بعد ستة عشر عاما, من هذا التاريخ, أي في بداية القرن العشرين, تم العثور على الأبحاث التي نشرها في المجلات العلمية الصغيرة, وكانت الدهشة كبيرة.

وسرعان ما عاد إلى الرجل ما استحقه من تقدير.

وصار (جريجور مندل) قدوة علمية لكل العلماء في كل أنحاء الدنيا, والأزمنة باعتباره مؤسس علم الوراثة, وإن تجاربه كانت الخطوة الأولى في فهم كل ما توصل إليه العلماء آخيرا, وهم يعلنون أن لكل إنسان منا خريطته الوراثية التي يمكن من خلالها علاجه من أمراض مستعصية أو وقايته من أمراض متوقعة بإذن الله.

 


 

محمود قاسم