زيارة إلى بيت غاندي

زيارة إلى بيت غاندي

صوره: سليمان حيدر

في طريق صنعته أيادي البشر, فجعلته بساطا أخضر, انطلقنا مأخوذين بمنظر الحشود التي كانت تسير إلى جوارنا, رائحة وغادية, بينما كان هدفنا النهائي هو الوصول إلى ضريح أحد أهم الشخصيات في القرن العشرين.

فقد ظلت شخصية المهاتما غاندي في الذاكرة منذ وصولنا إلى الهند, تلك الدولة المليئة بالعجائب المدهشة.

وبعد نصف ساعة قطعتها السيارة وهي تجوب شوارع مدينة دلهي القديمة التي كانت عاصمة البلاد قبل أن تتمدد أرجاؤها وتزداد اتساعا, فيتم استبدالها فيما بعد بمدينة جديدة أخذت نفس مسماها وأصبح يطلق عليها (دلهي الجديدة) أو (نيودلهي), وصلنا إلى منطقة (راج غات) التي يقع عندها (غاندي سمادي) ذلك الضريح الشهير للرجل الذي يشعر جميع أبناء الشعب الهندي بمختلف طوائفهم ودياناتهم باحترام شديد تجاهه.

فهم في الثلاثين من شهر يناير من كل عام يتوافدون من أقصى بقاع الهند إلى هذا الضريح لأداء الصلوات والطقوس الهندوسية عنده, ثم وضع أكاليل الزهور عليه, ولا يكتفي الهنود بهذا الاحتفال, ففي جميع ولايات الهند تقام احتفالات مشابهة تقديرًا للمهاتما غاندي الذي يعتبرونه الزعيم الروحي للأمة أو كما يطلقون عليه (أبو الأمة).

دخلنا إلى الضريح بعد أن قطعنا وقتا, ونحن نسير في طريق طويل تحف الزهور به من جانبيه, وبعد أن وصلنا عند الباب المؤدي مباشرة إلى الضريح, رأينا الهنود ينحنون في صلاة ويتمتمون ببعض العبارات, ثم يخلعون أحذيتهم ويضعونها جانبا, ويسيرون وهم يحملون زهور القرنفل, في ممر صنعت أرضيته من الرخام الأبيض, يؤدي في نهايته إلى قبر مستطيل مغطى بأكمله من المرمر, هو قبر المهاتما غاندي, الذي كانت إلى جواره شعلة متقدة على الدوام يتصاعد وهجها إلى الأعلى, دون أن تلوح له نهاية.

ما إن يصل الهنود إلى الضريح حتى ينحنون مجددا وهم يضعون أيديهم عليه قبل أن يرفعوا أصابعهم ويمسوا بها جباههم وصدورهم تبرّكا بهذا الزعيم الذي يعتبرونه روحا أعظم وهي المعنى الحرفي لكلمة المهاتما التي عرف بها.

تساؤلات

ظللنا نسأل أنفسنا ونحن واقفون وسط حشد من البشر أحاطوا بالضريح, ما سر قدرة رجل شديد البساطة على أن يجمع حوله كل تلك الأعداد من اتباع ومؤيدين انتشروا بطول الهند وعرضها?

ولماذا يحرص أبناء هؤلاء وأحفادهم حتى الآن على الإتيان من أقصى الأماكن في تلك الدولة الشاسعة المساحة, التي قد يحتاج المرء لبلوغها إلى أيام عدة?

هل لأن المهاتما غاندي قاوم محتلي بلده من الإنجليز بسلاح يطلق عليه بلغة الهندوس (ساتياراها) ومعناها: الشجاعة والحقيقة واللاعنف, فابتدع طريقة للمقاومة السلمية نجحت في النهاية في تحقيق الاستقلال لبلده, بعد أن وجد المستعمرون أمامهم رجلا أعزل ومسالما لا يرتدي سوى ثياب شبه بالية?

فغاندي الذي ولد في الثاني من أكتوبر عام 1869, كان طفلا خجولا لكنه كان جادا. وقد تزوج وهو في الثالثة عشرة من فتاة تماثله في العمر ووفقا للتقاليد المتبعة.

لكنه عندما كبر, غادر بلاده إلى العاصمة البريطانية, وهناك درس الحقوق, ثم عاد إلى الهند وبدأ ممارسة تلك المهنة, لكنه حين لم يوفق في الحصول على عمل في بلده, رحل إلى جنوب أفريقيا, وهناك عمل في مكتب للمحاماة, وقام من خلاله بالدفاع عن بعض العمال الهنود في جنوب أفريقيا, التي كانت إحدى المستعمرات البريطانية تماما مثل الهند.

ومع أن غاندي كان قد خطط لبقائه في جنوب أفريقيا سنة واحدة, فإنه استمر هناك إحدى وعشرين سنة قضاها في الدفاع عن حقوق الهنود بعد أن لمس تعرضهم لجميع أشكال التمييز العنصري.

وقاد غاندي العديد من الحملات من أجل تكريس حقوق هؤلاء العمال, وأنشأ صحيفة (الرأي الهندي) التي دعا من خلالها إلى عقيدته (الساتياراها) التي تعني (التحرك الوطني القائم على الحقيقة والشجاعة وعدم العنف).

وعلى الرغم من تعرضه للسجن مرات عدة من قبل المستعمرين البريطانيين.فإن نشاطاته أدت في النهاية إلى تحسين أوضاع العمال الهنود في جنوب أفريقيا.

العودة والمقاومة

وفي عام 1915 عاد غاندي إلى الهند وخلال خمس سنوات أصبح زعيم الحركة الوطنية الهندية. حيث نظم وقاد حملات سلمية وأعلن صياما عن الطعام عندما قام أتباعه باستخدام العنف لمقاومة القوانين التي أراد المحتلون فرضها على الشعب الهندي, داعيا إلى الانضباط والالتزام بمبادئ الشجاعة والحقيقة واللاعنف.

وعندما أصدر أحد الضباط الإنجليز أوامره إلى رجاله بإطلاق النار عشوائيا وسقط بسبب ذلك ما يقارب 400 قتيل, لم يتراجع غاندي خوفا, بل زادت تلك الحادثة من تصميمه على متابعة مواجهة المحتلين بالمقاومة السلمية, ليقوم بعد ذلك بالشروع في برنامج (النسيج اليدوي), هادفا من خلاله إلى تحقيق الكفاية الذاتية وتأكيد كرامة العمل اليدوي وتحدي صناعة الملبوسات البريطانية.

ولم يكتف غاندي بذلك, بل قام بقيادة المئات من أتباعه سيرا على الأقدام في مسيرة استمرت إلى مسافة 200 ميل, قاموا خلالها باستخراج (ملح الطعام) من مياه البحر احتجاجا على قانون يقضي بمعاقبة كل شخص يوجد بحوزته ملح غير مبيع عبر الحكومة.

وإذا كانت جهود غاندي ودعوته للمقاومة السلمية قد أفلحت في النهاية في إجبار بريطانيا على منح الهند استقلالها عام 1947, فإن (الروح العظيمة) التي ظلت تنادي بعدم استخدام العنف, راحت هي نفسها ضحية للعنف, فعندما كان في طريقه إلى الصلاة في معبد بنيودلهي, قام أحد المتطرفين الهندوس بإطلاق ثلاث رصاصات قاتلة عليه, احتجاجا على دعوته لأبناء طائفته بالتعايش مع سواهم من المجموعات الدينية والعرقية التي تضمها الهند.

وقد شكّل اغتيال غاندي للهند وللعالم صدمة, لكنه ظل في بلده وفي كل أنحاء العالم رمزا للسلام والحرية.

 


 

زكريا عبدالجواد