قدوتي العلمية

قدوتي العلمية

البتَّاني.. وصارت السماء قريبة

رسوم: ممدوح طلعت

(ما أغرب التأمل تحت هذه القبة الزرقاء)

هكذا راح الصغير يردد في دهشة ملحوظة, وهو ينظر إلى أعلى.. إلى تلك القبة المستديرة..كانت الشمس قد بدأت تنزوي وراء الأفق, وتركت خلفها ضوءًا ذهبيا, تستريح له الأعين.

وبعد قليل, تحولت القبة الزرقاء إلى اللون الأسود.

وراحت نقاط من الضوء تبرز على استحياء, تملأ القبة.. إنها النجوم البعيدة.. لم يكف (محمد) الصغير عن النظر إليها, وراح يتساءل:

- أيتها النجوم البعيدة.. لماذا أنت بعيدة.. هل تقتربين مني أكثر?

ولم يجد محمد بن جبار بن سنان البتاني, أي إجابة عن سؤاله الذي يلح عليه منذ أيام, وفي صباح اليوم التالي, قرر أن يسأل رفاقه في كتاب المدينة.. رد أحد الزملاء قائلا:

- النجوم بعيدة.. لأنها.. لأنها بعيدة!!

وقال الشيخ.. هذه الأسئلة ستظل بلا أجوبة.. فلا تتعب نفسك.

لكن الإلحاح ظل يطارد صديقنا المولود عام 854م في هذه المدينة (بتان) التي تطل على أحد روافد نهر الفرات, وعرف أن في المدينة عالمًا جليلاً, يهتم بالمعرفة في كل المجالات وراح يسأله, فكان الجواب:

- النجوم بعيدة لأن هذا هو مكانها, وهي لا تقترب منا.. بل يجب علينا أن نقترب منها.

وكانت الإجابة غامضة, فكيف يقترب الإنسان من هذه النجوم?

وجاءت الإجابة أكثر غموضا: الأمر سهل.. إنه المرصد.

وراح الصغير يسأل من المرصد? فعرف أنه المكان الذي ينظر من خلاله العلماء إلى السماء, ومعهم أجهزة متطورة, يمكنهم بها رؤية النجوم أكثر قربًا من الرؤية بالعين المجردة.

وقرر الصغير أن يسافر إلى المدينة الكبيرة.

وحين نزل العاصمة لأول مرة, عرف أن هناك علمًا يسمى (الفلك) يهتم برصد النجوم والكواكب في السماء. وأن لهذا العلم رجالاً يهتمون به, يسمون (الفلكيين), وأن رئيسهم يدعى (سند بن علي).

وفي اللقاء الثالث بين الشاب محمد البتاني, وبين رئيس الفلكيين, كان السؤال:

- سيدي العالم الجليل, لماذا لا نبني فوق التبة مرصدًا مثل بقية البلدان.

واندهش العالم الكبير, وهو يستمع إلى الشاب المليء بالحماس. ففي البلدان المجاورة, هناك مراصد, يمكن للعلماء بواسطتها أن يتابعوا حركة النجوم كأنها قريبة.

وتحمس العالم الكبير, وقال:

- فكرة.. في تدمر هناك مرصد.. وفي القاهرة..

وقرر الأستاذ مساعدة تلميذه في تحقيق حلمه, أن يكون أكثر اقترابًا من النجوم, أن يراها أكثر وضوحًا, وأكبر حجمًا.

وبدأ البناءون يشيدون المرصد.. وسافر (البتاني) إلى البلدان المجاورة, لاستحضار أجهزة حديثة لرصد الأجسام البعيدة.

والتقى (البتاني) بالعالم العربي الشهير (الاسطرلابي) أشهر من صنع جهاز رصد الأجهزة الذي قال له:

- أنت محظوظ.. لديّ جهاز حديث, لا يجعل النجوم تأتي إليك كبيرة وواضحة فقط, بل..

وسكت قبل أن يكمل:

بل إنك يمكن أن تشاهد أجزاء منها, كأنك تلمسها بأصابعك.

وعاد (البتاني) إلى مدينته, ومعه الكثير من الأجهزة واستقبله العلماء في لهفة, وسعادة, وراحوا جميعًا يحتفلون بوضع الأجهزة في المرصد الذي انتهى بناؤه فوق أعلى مكان يطل على العاصمة.

وصار المرصد بيتا دائما للبتاني.

في الليل, ينظر من فوهة الجهاز نحو الأفق, فيشاهد النجوم قريبة, كأنه يكاد أن يلمسها, لكنه كان أكثر إلحاحا.

- اقتربي أكثر أيتها النجوم.. فأنا أحبك.

وعرف أن النجوم يمكن أن تقترب منه أكثر, كلما استخدم عمليات حسابية معقدة, يمكنه وحده أن يستوعبها, وأن يعد لكل كوكب جدولا حسابيا خاصًا به.

وذاع حديث (المرصد), وقرر الأطفال أن يأتوا ليشاهدوا النجوم البعيدة.. أكثر قربا.

تذكر (البتاني) أحلامه الأولى. وقرر فتح (المرصد) يوما واحدا كل أسبوع, كي يأتي الصغار لمشاهدة النجوم القريبة.

وعن طريق المرصد, تمكن (البتاني) من معرفة حركة الكواكب في أفلاكها, ومن خلالها تمكن من معرفة أكثر دقة بالأيام, والشهور,والسنوات.

واستطاع أيضا أن يحدد أي الكواكب بعيدة, وأيها أكثر قربا من كوكبنا.. الأرض.

وبدأ يرصد كل ما يراه.. ويسجله على الورق.

وقرر أن يكتب للصغار كتابًا يفهمونه, وهم يشاهدون النجوم البعيدة, وقد اقتربت أكثر, واكتشف أن الكبار والصغار في حاجة إلى هذا الكتاب.

وصار كتابه (معرفة مطالع البروج) بين أيدي المهتمين.

وسمع السوريون بأمر المرصد, فطلبوا منه أن يبني واحدًا, فوق الجبال المحيطة بدمشق, وسرعان ما استجاب, وهو يردد:

- بناء مرصد جديد.. أهم من البقاء في المرصد القديم.

واستعان بصديقه (الاسطرلابي) في تدبير الأجهزة الجديدة الخاصة بمرصد دمشق, وبعد سنوات عاد مرة أخرى إلى مرصده القديم, وهو يردد:

- هذا بيتي القديم, لا أستطيع التأليف إن خرجت منه.

وراح يكتب عن صداقته للنجوم البعيدة, التي صارت قريبة, فكان كتابه الشهير (رسالة في تحقيق الاتصالات) الذي ترجم إلى لغات أوربا بعد أربعة قرون من صدوره باللغة العربية.

وعندما صدر كتابه (رسالة في تحقيق الاتصالات) كان الرجل قد صار شيخا عجوزا راح يردد:

- ليت الناس تتعلم من هذه الكتب!!

ومثلما تمنى يوما لو اقتربت النجوم, فإن حلمه تحقق مع السنين, ليس فقط من خلال شهرته كواحد من أحسن علماء الفلك في تاريخ البشرية, بل لأنه لم يكن يتصور أن أبعد النجوم ستكون أكثر قربًا منا في القرن الواحد والعشرين, لدرجة أن العلماء رصدوا كل ما في كوكب المريخ عن طريق الأجهزة وكأنما المريخ... داخل بيوتنا.

 


 

محمود قاسم