الصعود إلى الكاف

الصعود إلى الكاف
        

          أصدقائي وصديقاتي العرب الصغار، يقول المثل العربى القديم «فى السفر سبع فوائد» وأقول لكم لعل فى السفر أكثر من تلك الفوائد السبع على الأخص لو كان هذا السفر داخل وطننا العربى الكبير.. الجميل والساحر أيضاً لكي نتعرف على ربوعه العظيمة الثرية فى كل شيء، فقد منحها الله سبحانه وتعالى الموقع المهم والثروات المتعددة والتنوع الشديد فى التضاريس والطبيعة وفى كل ما تحويه تلك البقاع من كائنات حية بما فى ذلك النباتات بشكل يندر أن نجد له مثيلا بين كل بلاد الأرض.

          إذا كان عنوان هذا الموضوع قد بدا غريباً عليكم بعض الشئ فكلكم تعرفون «الكاف» بوصفه حرفاً من حروف أبجدية لغتنا الجميلة العربية التى اصطفاها الله تعالى من بين لغات الأرض لتكون لغة القرآن الكريم, لكن «الكاف» التى أحدثكم عنها اليوم هى مدينة!

          تقع «مدينة الكاف» فى الشمال الغربى من الجمهورية التونسية بالقرب من الحدود التونسية - الجزائرية وتعد قريبة جداً من مدينة «سوق أهراس» الجزائرية. وشيدت مدينة الكاف على عدة قمم متصلة من الهضاب الجميلة التى يبلغ متوسط ارتفاعاتها نحو ثمانمائة متر أو يزيد.. تتوسطها وتحيط بها العديد من الوديان الخضراء العميقة والمتوسطة، فضلاً عن سهول واسعة تتجمع فيها مياه الأمطار التى تنحدر من مساقطها فى أعالى القمم الجبلية عند حلول فصل الربيع بعد أن كانت ثلوجا تتوج تلك القمم فى فصل الشتاء الذى يتميز بأمطاره الغزيرة وبرودة الطقس القارسة فى تلك الأصقاع خلال هذا الفصل الذى تشاهد فيه أيضاً الرعاة منتشرين على مدارج الجبال الطبيعية بزيهم المميز «القشابية» الذى يحميهم من الأمطار والرياح وبرودة الطقس؛ وقد تحول هذا الزى الذى يشتمل أيضاً على غطاء للرأس متصلا به إلى سمة عامة تميز أهالى ولايات الشمال الغربى كـ «الكاف» و«باجة».

          ولغابات الصنوبر التى تنتشر فى ولاية «الكاف» خصوصية وروعة يبعثها فى النفس سحر المنظر وشذى رائحة الصنوبر التى يعبق بها جو الغابات والمناطق المحيطة بها فضلاً عما تحويه من طيور نادرة وحيوانات برية كالذئاب البرية؛ ويأتى إليها من كل أنحاء العالم هواة الصيد ومراقبة الطيور.

          ومن أروع هذه المناطق التابعة لولاية «الكاف» قرية «نبر» التى تبعد عن مدينة الكاف بضعة كيلومترات؛ حيث تطالعنا الغابات التى تجف ببقعة تدعى «باراج ملاج» وأعلى المكان الثلوج التى تكسو القمم؛ وفى أسفله الوادى العميق تترقرق فيه مياه الأمطار الغزيرة المحتجزة وراء «سد ملاج» مكونة بحيرة بديعة أخاذة محاطة على البعد بالمروج السندسية الخضراء.

          ومنازل مدينة الكاف وبناياتها ذات اللون الأبيض والنوافذ الزرقاء كسائر المبانى فى تونس تتميز بكونها تتدرج من القمم إلى السفوح، حتى أننا نجد العديد من المبانى قد شيد على المناطق الآمنة من الجروف الجبلية. وأعلى مناطق مدينة «الكاف» هى «القصبة» التى تضم القلعة الحربية ودواوين الحكومة وآثار البازيليك القديمة.

          و«القصبة» هى تعبير شائع فى معظم البلاد المغاربية عن المنطقة التى تضم دواوين الحكومة وعادة ما تكون فى منطقة مرتفعة.. إلا أن أهم ما يميز «قصبة مدينة الكاف» هو موقعها الإستراتيجى على ارتفاع شاهق محروس بتلك القلعة ذات الأسوار المنيعة التى طالما صدت هجوم الغزاة خلال القرون الماضية حتى أننا نجد «الباي» وهو لفظ كان يطلق على حكام تونس «حمودة باشا» يهتم بتقوية أسوار الكاف وإعادتها تماماً لما كان لها من مناعة فى نهاية القرن الثامن عشر وكانت قد دكت سنة 1756 خلال الحروب بين «بايات تونس» و«دايات الجزائر» ولفظ «داي» كان يطلق على حكام الجزائر آنذاك.

الكاف قديمًا

          ولعل أول ظهور لمنطقة «الكاف» فى تاريخ الحضارة والإنسانية خلال «العهد الأشولى» فى حقبة «الحضارة ذات الوجهين» منذ مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف سنة. وفى المنطقة التى تسمى حالياً «سيدى الزين» قرب مدينة «الكاف»، وفى عهد «قرطاج الفينيقية القديمة» «سيدة الثلاثمائة مدينة» وجدت إحدى أهم المدن القديمة التابعة لها وأكثرها مناعة «سكافينيريا» الاسم القديم «للكاف» التى كانت تتحكم وإلى اليوم في المدخل الشمالى الغربى لتونس؛ وعبر عصور التاريخ تلعب الكاف هذا الدور الحربى المهم، ومع دخول الفتح العربى وبعد أن عم نور الإسلام أفريقيا التونسية يطوع الفاتحون العرب الاسم القديم «سكافينيريا» بما يتلاءم مع اللسان العربى لتصبح منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا «الكاف».

قمح وشعير وفراولة وصنوبر

          وموضع الكاف أي مركزها وسط جيرانها شديد الأهمية، فبالإضافة لكونها تتحكم فى المدخل الشمالى الغربى لتونس فهى تجاور من الغرب ولايات ومدنا مهمة كولاية «جندوبة» سيدة «المرجان» وولاية «طبرقة» ومدينة «عين دراهم» الساحرة، ومن ناحية الشرق فهى تجاور ولاية «باجة» التى يوجد بها «معمل السكر» الشهير؛ ومدناً أخرى مهمة مثل «تبرسق» و«تستور» وأسفلها منطقة «فلاحية شهيرة هي سيدي الدهماني»؛ وشرقها أيضاً أحد أهم وديان تونس الزراعية «وداى مجردة» الذى يمر عبره «نهير صغير» يعتمد عليه الفلاحون بصورة أساسية.

          وأهم محاصيل «الكاف» القمح والشعير والفراولة والصنوبريات وخاصة نوع منها يدعى «الزجوجو» الذى يزين «العصيدة» التى يقدمها التوانسة فى احتفال «المولد النبوى الشريف»... فضلاً عن غابات الأخشاب ومراعى الحيوانات الواسعة.

الكاف اليوم

          مدينة جبلية متدرجة الارتفاع تحفها الغابات؛ شديدة النظافة وبها محطة إذاعة وعدد من الدواوين الحكومية بالإضافة لكل الخدمات التى تحتاج إليها المدن العصرية، ويوجد بها عدة مدارس لمختلف المراحل التعليمية بالإضافة لمعهد الدراسات الإنسانية ومعهد عال للمسرح والفنون الدرامية ومركز للفنون «الركحية والدرامية» يقيم مهرجاناً سنوياً للمسرح يحمل اسم «مهرجان الكاف»، وتشرف على مناظر طبيعية ساحرة يسعد بها كل من يأتى للمدينة التى تهتم بالسياحة رغم كونها منطقة فلاحية؛ وتستطيع أن تراقب «مدينة الكاف» بالكامل والبلدان المجاورة من ساحة «سيدى بو مخلوف» التى تضم الجامع ذا الطراز المغاربي الفريد والقلعة المنيعة وأثار البازيليك والمدينة العربية القديمة التى حافظت على طرازها المعمارى الخاص إلى اليوم ويميزها طيبة أهلها ولطفهم. وليس أروع من أن تسمروا أيها الأصدقاء مع أهالي الكاف القدامى تستمعون إلى أغانيهم الشجية التى اشتهرت بها «الكاف» بين كل بلاد المغرب العربي.

 


 

خالد سليمان   

 




صورة من احتفالات مهرجان الكاف